«فماذا جرى للأرضِ حتى تبدَّلتْ
بحيث استوَتْ وديانُها وشِعافُها؟!
وماذا جرى للأرضِ حتى تلوَّثتْ؟!
إلى حدّ في الأرحام ضجَّتْ نِطافُها
وماذا جرى للأرضِ كانت عزيزةً
فهانتْ غَواليها، ودانتْ طِرافُها؟!»
السلام عليك يا أبا خالد، يا صوت الشعر والأرض، ووجه النهر والشرفاء من الأهل، وجود وقامة النخيل.
أكتب إليك والأوطان وعواصمها تتساقط كشرر النار لا كالنجوم، والفوضى تحل بقبحها محل النظام والقانون، الناس تشيعت فرقاً، والدول تمزقت وتحولت إلى دويلات هزيلة. أكلتنا الذئاب وما كنا عصبةً، وفتحت الأبواب فدخل الفرس والترك والكرد، وعادت الروم، لا البنيان مرصوص، ولا السهام مجتمعة، وكلٌّ يغني على ليلاه، وكلٌّ ممسكٌ بلحية أخيه.
لا سكَتَ غضبٌ، ولا تحدّثَ بحبٍّ عفوٌ وصفح.
استفردتْ بنا إسرائيل، وطغت أمريكا والغرب فعاد الاستعمار الذي طردناه إلى عقول الناس قبل ديارهم، ونجحت خططهم في تمزيق الأمة وإشغالها بنفسها فئوياً وطائفياً، وعاثت فيها فساداً بتوجيهاتهم العصابات والجماعات المسلحة، تنفيذاً لخطط للأعداء ضمن سياسة فرّق تسد القديمة الجديدة، وخدمةً لمصالحها الضيقة الخاصة، فأباحوا دماء الناس الآمنين وروعوهم وهجّروهم وسرقوهم!!
أكتب إليك يا سيدي ولا أدري في أيّ غربةٍ أنت، وهل لكبيرٍ نبيلٍ كريمٍ مثلك قدرةٌ على مفارقة الفلّ والياسمين، ودجلةَ والبنفسج والغناء الحزين والتراث الجميل؟!
ومن أين هدوؤك هذي الساعة يا عبد الرزاق؟!
بل من أين هدوئي، وأنا أرى ما أرى من ضياعِ هويةٍ وهيبةِ لغةٍ ونخيل، إلى ضياعِ أهلٍ وأوطان.
كنتُ أرى بالأمس، وليتني ما رأيت، ولكننا لا نستطيع إغماض أعيننا عما يَجري لنا، وما يُجرى لأوطاننا من عملياتِ بترٍ واستئصال وتشويه متعمدة، رأيتُ مدناً في العراق وغيره على الشاشة الفضيةِ، بل هي بقايا مدنٍ مشوهة، فما فهمتُ لافتاتها التي كتبت بالكردية والفارسية والإنجليزية، كأنه ما عاد للمتنبي ولا للسيّاب ولا لك مقاماً في «أرضِ نخلة».
إيه يا غريباً عليها اليوم وأنت ابنها ومحبها، ومدون تاريخها، وشاهدٌ أصيلٌ على نهرها ونخيلها:
« كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها
وأني على أمني لديها أخافُها
كبيرٌ عليها، بعد ما شابَ مفرقي
وجفَّتْ عروقُ القلبِ حتى شغافُها
تَتبَّعثُ للسَّبعين شطآنَ نهرِها
وأمواجَهُ في الليلِ كيف ارتجافُها
وآخَيتُ فيها النَّخلَ طَلعاً، فَمُبسِراً
إلى التمرِ، والأعذاقُ زاهٍ قطافُها.»
حتى الأتراك يا صاحب الشعر عادوا بقبحهم الاستعماري النفعي لا بجمال ديننا.
يا لضياعها، كما هو حال الضياع والفتن في اليمن وليبيا والسودان وسوريا، وما زالت المصائب تتوالى، فالأوطان تحترق وتحرق بنيها، والمجتمعات تتمزّق ويأكل بعضها بعضا، والمؤلم أن الناس لم تعد تهتم بما يجري من حولها، فكل انضم تحت لواء خاسر في النهاية، وكل اقتنع بخيبته وبريقها الزائف.
حتى الرايات زوروها بعد أن زوروا التاريخ والوثائق، عديمو الوفاء والانتماء، بل إنه لا انتماء لهم فهم أجسادٌ غريبةٌ تعافها وتمجها حتى مزابل التاريخ.
ولكن دعنا منهم فهم عراةٌ أمام الجميع حتى وإن لم ينطقوا، وقل لي يا أستاذي وصاحبي: أتذكر كيف كنت وكنا عندما كنا نزورك أو تزورنا أو تجمعنا العواصم، همّنا وجرحنا وملحنا وفألنا الوطن وأهله، وما زلنا بحول الله وفضله، أوَ تذكر من رائحة السنين هذا العطر عطرك؟!:
« بين دفءِ التوحّدِ بالموت، والأنملِ الراجفةْ.
بين صوتك والعاصفةْ.
طلقةٌ خاطفةْ.
إنْ تجاوزتُها.
إنْ فتحتُ لها معبراً في دمي
زمني كلّهُ ينتمي
وأنا واقفٌ..
كلّ أزمنتي واقفةْ.
أيها الوطنُ المستبدُّ بما يهبُ الحبّ حدّ الشهادةْ
أإلى الموتِ أمْ للولادة
هذه اللحظةُ النازفةْ؟!
لغتي خائفةْ..»
فأين قادتنا اللحظةُ النازفةُ بالحبِّ يا عبد الرزاق؟!
محملٌ أنا لك بسلال الحب والورد، وحرقة الأسئلة التي اكتويت بها العمر، كما هي أسئلتك الكبيرة عبر أعمالك الشعرية الضخمة التي أثريت بها ذائقتنا، ومكتبتنا العربية التي يريدون حرقها كما أحرقوا أحلامنا بأوطان متحدة عالية، وشطب نتاجنا وحروفنا المبينة، ونسف كل أثرٍ جميلٍ خطه ورسمه وأبدعه عقلٌ وطنيٌّ جميل أصيل، ونهبوا ما وقعت عليه كراهيتهم من كنوزنا المعرفية والحضارية، ولم يكن أولها بيت الحكمة، ودمروا كل معلم وشاهد ورمز حضاري.
وكانوا من قبل قد سرقوا ودمروا الأوطان، وقتّلوا وغرّبوا أهلها:
«يا صبرَ أيوب.. حتى صبرُه يصلُ
إلى حُدودٍ، وهذا الصبرُ لا يصلُ.
يا صبرَ أيوب، لا ثوبٌ فنخلعُهُ
إنْ ضاقَ عنّا.. ولا دارٌ فننتقلُ
لكنه وطنٌ، أدنى مكارمه...
يا صبرَ أيوب، أنّا فيهِ نكتملُ.»
** ** **
* كل المقاطع المقوسة للشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد.
- الرياض
mjharbi@hotmail.com