يروم الحجاج Argumentation بوصفه باباً رئيساً من أبواب النظرية التداولية التوغل باتجاه المناطق القصية في النص؛ لفحصها وفق آليات ومفاهيم أثبتت فاعليتها في مواجهة الخطاب ومعالجته، وإذا كانت الحكمة ضالة المؤمن فإن توظيف تلك القواعد في الدرس الديني مكسبٌ ينبغي استثماره، بعيداً عن العبارات التي تكرر في ذم الكلام وأهله، ذلك أن مثل هذه العبارات لم ترد عن سيد البشر، وإنما عن أقوام - إن أحسنا الظن فيهم - قلنا: إن ملكاتهم قصرت بهم عن هضم كثيرٍ من المسائل المنطقية العويصة؛ ولذا اتجهوا إلى الذم زاعمين أن فهم الدين لا يحتاج إلى القواعد البرهانية، ولا جدوى من معرفة مصطلحات منطقية من قبيل: الاقتضاء - اللازم - الاتجاه...إلخ، مع أن الإلمام بها - من وجهة نظري - بالغ الأهمية؛ لأنها تكوِّن الأرضية الأساسية المتفق عليها في أي نقاش علمي.
لن يروم الدرس الحجاجي في هذه المقالة تسليط الضوء على النص المشكل من زاوية الحجاج البلاغي الذي يمثله برلمان ولا من زاوية الحجاج الإدماجي الذي يمثله ديكرو؛ ذلك أننا لن نعنى في هذه السطور بالبحث عن المناويل وأنواع الحجج والأقطاب التلفظية، مما هو غير مجدٍ عند التعامل مع القصة التي سنذكرها، وإنما ستتوجه المقاربة صوب الحجاج التولميني (نسبة إلى تولمين) الذي يهتم بالكشف عن المستويات المنطقية ودرجات إقناعها.
على أن الفحص المنطقي لا ينبغي أن يكون هو المناص الوحيد عند معالجة النصوص التي تحفها القداسة، إذ لا بد من التسلح بخلفية دينية تذود عن النص حمأة الجرأة عليه دون دليل، وتحميه من نزق العجلة في إطلاق الأحكام دون تدبر.
أحسب أن هذه المقدمة ضرورية لهذه المقالة التي سأقف فيها عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (34) سورة ص.
أورد ابن كثير ما نصه: «قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: يعني شيطانا « الخطورة هنا تكمن في كون هذا التفسير وما يندرج تحته من قصة هذا الشيطان روي عن أئمة كبار لهم باع طويل في كشف معاني القرآن، ولو كان الأمر منسوباً إلى كعب الأحبار أو إلى وهب بن منبه اللذين شهرا برواية الإسرائيليات مع عدم التدقيق في مضامين تلك القصص، لكان الأمر أقل ألماً.
قبل مواجهة القصة منطقياً، أشير إلى أن ابن كثير ذكر أن ما سأورده من أحداث في هذه المقالة روي عن حبر الأمة وترجمان القرآن بسند قوي، وتحت عبارة بسند قوي خط بل خطوط - كما يقول أهل التربية والتعليم - وإليك القصة كما جاءت في تفسيره دون أي تغيير:
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه - وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه - فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأعطته إياه، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها: هاتي خاتمي. قالت: قد أعطيته سليمان، قال: أنا سليمان. قالت: كذبت، لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول له: أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله - عز وجل -. قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئاً؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيَّض، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطان أنه قد فُطِن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها وقرؤوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم، فأكفر الناس سليمان - عليه السلام - فلم يزالوا يكفرونه, وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته، وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم؛ فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ فقال: نعم. قال: بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك، قال: فحمل سليمان - عليه السلام - السمك، ثم انطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم؛ فأخذها سليمان فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه. قال: فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين، وعاد إلى حاله، وهرب الشيطان حتى دخل جزيرة من جزائر البحر؛ فأرسل سليمان في طلبه، وكان شيطاناً مريداً؛ فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه، حتى وجدوه يوماً نائماً؛ فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص، فاستيقظ فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنماط معه الرصاص قال: فأخذوه فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان، فأمر به فنُقِر له تخت من رخام، ثم أدخل في جوفه، ثم سد بالنحاس، ثم أُمِر به فطرح في البحر، فذلك قوله»: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَينَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (34) سورة ص. «قال: يعني الشيطان الذي كان سلط عليه.
انتهت القصة عند هذا الحد وأعتذر للقارئ عن بعض الهنات الأسلوبية الواردة في نص الحكاية، فقد أوردتها كما جاءت في تفسير ابن كثير دون تدخل مني في صياغتها، وأشير هنا إلى أن ابن كثير لم ينفرد دون سائر المفسرين بإيراد هذه القصة، بل شاركه أئمة عظام كالطبري والقرطبي وغيرهما، وإن اختلفت بعض التفاصيل:كالحديث عن أن الجني لم يُقبض عليه إلا حين كان في حالة سكر إثر شربه من البئر التي أمر سليمان أن ينزح ماؤها، ويوضع بدلاً منه خمر؛ حتى يتمكن جنود سليمان من إلقاء القبض على هذا المارد إذا فارق صحوه.
إن هذه القصة تثير مطراً من الأسئلة، التي لن أجيب عنها، وإنما سأترك للقارئ ذلك، في شكل من أشكال الامتحان التولميني لمنطقية القصة:
س1 - كيف يجعل الله ما منَّ به على نبيه سليمان من قدرات لا يعود إلى منحة ربانية، وإنما إلى خاتم يُلبَس وتزول بخلعه كل تلك المنن؟!
س2- ما دام أن للخاتم كل هذه المعجزات، فكيف يستأمن سليمان زوجه عليه، ألا يخشى أن تلبس الخاتم، وتكون هي الملكة؟!
س3- ما الذي جعل امرأة سليمان تجزم أن زوجها الذي خرج من الخلاء ليس سليمان مع أنه لا يشبهه فحسب، وإنما يماثله تماماً، ألم تشك في الأمر؟!
س4- عندما يدَّعي المرء - على سبيل المثال - أنه المهدي المنتظر، سيتعرض لسخرية الناس؛ لأنهم لا يعرفون شكل المهدي، لكن شكل سليمان معروف لدى كل من حوله، فلم يرمه الصبيان بالحجارة، ووجهه وجه سليمان الذي يعرفون؟!
س5- إن كان الله أراد أن يعاقب نبيه بسبب ذنب اقترفه، فما ذنب رعية سليمان حتى يسلط عليهم جنياً يحكمهم بغير ما شرع الله؟!
س6- هل من المقبول أن يسلط الله هذا الجني على نساء سليمان؛ فيعبث بشرفهن وينام معهن، بل يتمكن من جماعهن؟!
س7- ألم تستنكر نساء سليمان من هذا الجني إلا كونه يجامعهن وهن في حالة حيض؟!
س8- ألا يمكن أن يصل الخاتم إلى سليمان بعد أن تاب الله عليه إلا بطريقة دراماتيكية، لا تقل عجائبياً عن بقية أحداث القصة؟!
س9- حين استعاد سليمان خاتمه عاد إليه ملكه، فما الذي يجعله لا يستطيع الإمساك بذلك الجني إلا حينما يكون في حالة سكر؟!
س10- هل شرب الخمر يؤثر على الجن فيذهب عقولهم، كما يؤثر على الأنس؟!
أسئلة لا تنتهي، ومع كل سؤال يولد سؤال، لكني اكتفي نظراً إلى طبيعة حجم المقالة الصحفية بهذا العدد من التساؤلات، لأعود مرة أخرى إلى الأئمة الكبار الذين انطلقت منهم هذه الرواية وإلى كتب التفسير المحترمة التي وردت فيها هذه القصة، وأقول لهم: أمثل هذا يليق؟!
هذه القصص وأمثالها لا ينبغي إيرادها أبداً تحت أي مبرر، بل ينبغي أن تمزق من تلك الكتب، ولو كانت شيئاً ذا جسد لدعوت إلى قصفها بكل قنابل الدنيا من أجل تدميرها، وإلغائها تماماً، إن وجودها يسيء لكل المسلمين، ويعطي انطباعاً بأنهم كالبهائم لا عقول لهم.
لا تقل بعد ذلك: إنها إسرائيليات؛ فهذه الحكايات أخطر على الناشئة من الأفلام الإباحية التي تهدم الأخلاق؛ لأن إعادة بناء الأخلاق شيء ممكن، أما هذه القصص فتهدم العقيدة، وتقلب عقل المراهق لو قرأها رأساً على عقب.
لا مجال للتساهل هنا تحت أي مسوغ، ولذا فإني أدعو المهتمين بعلوم التفسير إلى تكوين فريق بحثي يقوم بتنقية تلك المدونات مما علق بها، ولا يكتفي هذا الفريق بالتعليق على القصة فقط، وإنما يقوم بعمل تهذيب لتلك التفاسير، يكون هو المعتمد، حتى يبقى الاطلاع على المدونات الأصلية محدوداً، ومقتصراً على النخبة التي يمكن أن تفهم أبعاد الموقف.