وهو الذي تقوم به مؤسسات ثقافية دون رعاية حقيقية لأدبيات التكريم وأصوله وواجباته، فتراها تبادر إلى الاحتفاء بأحد الرموز الثقافية من الأحياء أو الأموات في عجالة من أمرها، عبر حفلة خطابية وتوزيع دروع تذكارية لأسرته ومطبوعات مصغرة عن دوره الثقافي وإسهاماته، ويعتلي بعض الخطباء المنبر فيسوّقون أنفسهم عبر الاحتفاء، ومثل ذلك تفعل المؤسسات الثقافية لتدحض عن نفسها تهمة الغياب، فرأت في التكريم مشروع علاقات عامة نافع وناجع.
والتكريم بهذه الصورة من أسهل الأعمال وأثقلها في آن واحد رغم هشاشته قياساً بما يمكن القيام به في هذا السياق، لكن دأب هذه القطاعات الاستسهال والجري خلف الأضواء على حساب المنجز الأبقى! وقد يضاف إلى ذلك ضعف قدرتهم على التخطيط طويل المدى والعمل بروح الفريق، وهما أمران غائبان عن المؤسسة الثقافية في ظل الصراعات، وضبابية الأهداف، وتفاقم النزعة الفردية في الإدارة.
وقد يظن البعض أن النوايا الحسنة وحدها تصنع الأفعال الراقية والنشاطات المعرفية فتأتي الاحتفالات المرتجلة مزدحمة بالكلمات الإنشائية والخطب الرنانة ثم العشاء الفاخر ثم فقرة ختامية لالتقاط الصور التذكارية للذين استغلوا المرحوم لإثبات حضورهم ورهافة قلوبهم، وليس أكثر من ذلك! وقبل أيام أقيم في مكة حفل تكريم للراحل الحاضر أحمد عبدالغفور عطار اللغوي والشاعر والمترجم والإعلامي الرائد صاحب الجهد الثقافي الموسوعي المتعدد، وأحسن البعض ظناً بالقائمين على الاحتفال فتوقع منهم طباعة أعماله الفريدة، وعقد ندوة علمية عن إنجازاته وأدبه ومشروعاته الثقافية والصحافية كما فعل نادي المدينة المنورة عن الرائد المثقف عبدالقدوس الأنصاري، لكن وبكل أسف، جاء احتفال مكة متواضعاً أمام قامة ثقافية تستحق البحث والتأمل. وتمنيت لو أن الجهة القائمة على التكريم فعلت شيئاً يبقى للقارئ فطبعت ما لم يطبع من إنتاج العطار، أو أهدت إلى الجمهور أهم كتبه في طبعات حديثة توثق الصلة بجيل الرواد، وتعزز معنى الاحتفاء، أو توصي باحثين بدراسة أعمال الراحل وتحليلها ومراجعتها، أو إنشاء مركز بحثي متخصص في المجالات التي برز فيها ليكون موئلاً للباحثين الجادين، ورافداً لمشروعاتهم.
ولعل أهم مشروعات التكريم في البلاد اثنينية الخوجة بجدة، وقد كرمت شخصيات رائدة من الأرجاء كافة، ولم تكتف بالاحتفالات الكلامية وسرد الذكريات، بل بادرت إلى إصدار سلسلة مهمة من أعمال الرواد في طبعات فاخرة تعد كنوزاً فريدة، وكما يحيط النقص بأعمالنا الثقافية وقعت الاثنينية في المأزق فاحتكرت الأعمال، ولم توزعها، ولم تنشئ من أجلها دار نشر خاصة، وبقي وصولها إلى القارئ رهن الإهداء؛ وفي ذلك تأكيد على «نقص القادرين على التمام»!، والحل في إتاحتها للقارئ، وإفراد جناح لها في معارض الكتب ليتحقق الاحتفاء وتعم الفائدة. وعلى مستوى الإعلام الثقافي قدمت هذه الصحيفة سلسلة من أعمال التكريم تنظر إليها الساحة بعين الإجلال والاحتفاء.
وهذا الكلام لا ينفي بعض الجهود الفردية والمؤسساتية التي شهدتها الساحة منذ سنوات، ومن ذلك «سلسلة الرواد للناشئة» التي قدمتها وكالة وزارة الثقافة للشؤون الثقافية، وهي عمل مهم جداً خذله الإخراج فلم يخدم المحتوى، وفي هذا السياق يمكن الاقتداء بسلسلة المشاهير التي قدمتها دار «الشروق» المصرية، وفيها يتجلى التآخي بين المعنى والمبنى مدعوماً بالرسم والإخراج والطباعة لخدمة المحتوى الثقافي.