النوع الأول العام: الذي يوصف به عامة المشتغلين بالأعمال الذهنية التي تحتاج لطاقة عليا تباشر الأفكار؛ لأنها تشتغل على المعرفة وتنتجها. وهذا النوع على الرغم من ارتباطه بالملكات العليا من الإنسان يظل يدور في مدار العادي والثابت، ومن ثم فجهده صاحبه ينحصر في تحصيل المعرفة تحصيلاً صحيحًا، وسلوك الطريق المعبد بالإشارات والإرشادات المدونة، وقد يضيف هنا أو يسد ثغرة هناك على جنبات الطريق المعبد السالك. الذين ينتمون لهذا النوع العام من الاشتغال يحتاجون -لطبيعة المجال والموضوعات- إلى قدرة ذهنية تمكنهم من العمل الذهني وفهم الأفكار وتصور العلاقات ومنطق المعرفة، وهذا يحتاج منهم إلى: جهد كبير، وسنوات من العمل على التكوين المعرفي، لكنه في النهاية لا يجعلهم منخلعين من محيطهم ولا منبتين عن اليومي من حياتهم؛ وإن صرفهم التحصيل والمشاركة الذهنية عن بعض ما عليه الناس من تواصل اجتماعي دؤوب وواشج.
غير أنهم بالمقابل يكتسبون شيئا من «ألق الذهنيين» لأنهم يمثلون الواجهة للذين يعيشون على الأفكار! وهم أكثر الفريقين/النوعين استفادة من مكاسب العمل الذهني من خلال العمل والتدريس والتأليف، والحضور الإعلام والاجتماعي اللائق؛ لأنهم يستفيدون من المعرفة ويستهلكونها ويعيدونها، ويتعرف المهتمون على الجديد من خلالهم.
أما النوع الثاني فهو أخص من النوع السابق، ويمتاز بأن المشتغل به منجذب إلى خبراته التي حصلها بأكثر من طريقة، وفي أكثر من حقل معرفي أشدّ من انجذابه لفكرة الاسترجاع والتحصيل المهيمنة على نشاط النوع السابق من الذهنيين. هذا الانجذاب الشديد لخبراته يجعل التفكير لديه يند عن السياقات المعهودة؛ ولكن خروجه عن هذه السياقات لا يأتي من باب الشذوذ الناقص الذي ينتج عن الغفلة أو الخطأ ويعوزه الإحاطة والفهم، ولكنه من باب الشذوذ الإيجابي لأنه محكوم بالوعي الدقيق والمفصل بالعلاقات، ومن ثم فهو: بارع في التقاط الجديد الذي يتولد من طول تأمل للأنظمة الذهنية والعلاقات، ومراجعة لمجمل الخبرة الذاتية التي تحصل عليها من سيرة المعرفة، وبارع في الخروج من الأقباء المشيدة، والقفز الذكي على المقولات القارة. وسبب ذلك هو قدرته على التركيز واعتناؤه بما يهتم به بالإضافة إلى ذكائه الفائق- وإن كانت لفظة الذكاء هنا غير دقيقة لأن الذكاء قدرة نمطية تعرف بسرعة المحاكمة، وعبقريته هي الخروج عن نمط المحاكمات المقننة بالكلية، ولكننا نعبر بها للدلالة على القدرة الذهنية العالية- أما السبب الجوهري فهو -ما ذكرته آنفا- مركزيته حول ذاته، وهو ما يتيح له التحرر من القيود فتتمثل له خبراته وتجاربه على قدم المساواة مع الحقائق العلمية الثابتة والمسلم بها. ومن هنا تنشأ المشكلة بين هذا النوع من المشتغلين بالعمل الذهني وبين محيطهم المعرفي الصغير (النوع السابق). ومرجع المشكلة هنا لهذا النوع من المشتغلين بالعمل الذهني تتمثل في أسباب تفوقه وتميزه، لذلك تضطرب علاقته مع الواقع، ويغب اليومي والمعتاد عن تفكيره تماما، وتخفى عليه أسباب الحياة الاجتماعية الأليفة، وتلتبس أمامه الطرق المختلفة لتحصيل المعايش والبيع والشراء، وتكثر غفلته عن أكثر الأشياء ظهورًا ووضوحًا، برغم ذكائه الذي يتفوق على أقرانه وعلى زملائه الذهنيين من حوله. كما تضعف علاقته بالمجتمع لانغلاقه على نفسه، وتضعف كفاءته للعمل الروتيني ويصعب الاعتماد عليه لإنجاز المهام في الوقت المحدد، وربما بلغ به الأمر إلى حد وصمه بعدم الجدية، وبالمرض النفسي أو العزلة والتوحد والرهاب الاجتماعي، أو الجنون. وكثيرا ما تعجز المراكز الرسمية عن استيعاب شذوذه المعرفي لأنه يفكر خارج القوالب ومن وراء الأقواس..وإذا كان القسم الأول قد حصّل قدرًا من الاعتراف به، ونال أسباب الحياة الكريمة (بصفتهم مشتغين بالعمل الذهني) فإنهم قد قاموا بمسؤولية مهمة وهي (تبيئة) مكان صالح للعلوم والمعارف والفنون في المجتمعات وفي الأنظمة التعليمية والتدريبية المختلفة -وهي وظيفة مهمة وقيمة- لكن الصنف الثاني من المشتغلين بالعمل الذهني -الذين إليهم يرجع الفضل في القفزات الفنية والمعرفية- فإن استفادتهم الاجتماعية والحياتية من أثر هذه التميز (الإبداع- العبقرية) ضعيف جدا إن لم يكن معدومًا؛ برغم أن الإنسانية مدينة لهم فيما تحقق لها من الرفاهية والتقدم التقني والعلمي والإنساني. ولذلك يقع على الشعوب والحكومات والمؤسسات مسؤولية دعم هذه الشريحة المهمة (المبدعة- العبقرية) ليس بالاحترام لطبيعة العبقرية- الإبداع لديهم، ولكن بالتكريم المعنوي والمادي الذي يعوض عليهم انشغالهم الدائم بالابتكار والإبداع وما يترتب عليه من تضييع متطلبات الحياة، وبالتخفيف عنهم من ساعات العمل اليومية إذا لم يكن تفريغهم لما يبدعون فيه أمرا ممكنا، وبتوفير التمويل اللازم للتنفيذ، فهم يدفعون عن مجتمعاتهم ضريبة التفكير المستغرق في مجمل ما أنتجه العقل البشري، ويحملون عنها عناء تميز التجربة الإنسانية في هذا الوجود.