يفتح لنا زمن التعددية - بشتى مجالاتها الفكرية والثقافية- منفذًا نحو تعددية النظرية النقدية، إذ إنها ليست بمعزل عن الفكر الفلسفي التنظيري الذي يتماس مع النظريات الفكرية العالمية؛ لذا فإن تعددية النظرية النقدية تعتبر من صلب التعدديات الفكرية الأخرى.
وقد بزغت تعددية النظرية النقدية كحل ائتلافي أمام التعصب للنظريات النقدية السالبة لغيرها من قريناتها، والفضل يعود لنقاد مدرسة شيكاغو في الاعتماد على تعددية النظرية النقدية حينما انشغلوا بالتنظير النقدي على حساب التطبيق، وعملوا على نقد النقد المعاصر مما أكسبهم بعدًا تنظيريًا أوسع أحالهم إلى قبول التعددية النقدية والإيمان بها كمقابل للعصبية التنظيرية التي انغمس بها النقاد فيما بعد الحرب العالمية الثانية ؛ فأنشأ نقاد شيكاغو مجلة ( البحث النقدي) في العام 1974م الصادرة عن جامعة شيكاغو التي جعلت جلّ همها التنظير لقبول التعددية النقدية والبحث في النظرية النقدية المعاصرة لتلك الفترة التي ماجت بنظريات عديدة ذات عصبيات مختلفة. وانتهجوا نهجًا يرفض التوفيقية في تعددية النظرية النقدية ويهتم بحرية النظرية المتبعة في النقد شريطة عدم التوفيق بين أكثر من منهج في الدراسة النقدية، وعلى أن المناهج قد تتماس فيما بينها ولو في أصولها إلا أن الخلط في المنهج النقدي بأكثر من نظرية يعتبر عيبًا منهجيًا عند الناقد.
وإن اختيارنا لتعددية النظرية النقدية ينبثق من أمرين مهمين يشفعان لنا بقبولها وهما: ارتباط النظرية النقدية الحديثة والمعاصرة بالفلسفة والأفكار التي تقبل التعددية وتموج ضمن عالم يتجدد مع تجدد نظرياته وتعدد أفكاره، فالذي يقبل التعددية الثقافية أو السياسية - مثلاً- يتحتم عليه قبول التعددية النقدية للعلاقة الوثيقة بينهما في أصول النظريات وتعدديتها، ولم تعدْ النظرية النقدية، كما كانت في بداية النقد الأدبي العربي المقتصر على وجهة نقدية واحدة لا تكاد تتجاوز البلاغي والنحوي.
ونقبل التعددية -أيضًا- لأنها تعتمد على نظريات تتفارق وتتماس بحسب أصولها ومناهجها، فالنظرية القديمة التي تهتم بالكلمة والجملة فحسب لا يمكن أن تفتح لنا مجالاً للتعددية لكونها انفردت بعزل الجملة والكلمة عن النص، بينما تعاملت النظريات النقدية الحديثة والمعاصرة مع النص بمنظور آخر لا تشاركها فيه النظرية القديمة؛ بدءًا من الشكلانية التي حيّدت كل ما هو خارج النص حتى الدراسات الثقافية التي أعادت النص للواقع، والجامع لهذه النظريات هو البعد عن الوحدانية اللغوية الكامنة في الكلمة والجملة منعزلة في النص عن مثيلاتها، وهذا الأصل يجعلنا نقبل التعددية لأنها ستمنحنا نقدًا لا نجده عند غيرها؛ حتى وإن كان هذا النقد أيديولوجيًا فإنه ولابد سيفتح لنا ثغرةً نحو نقد النقد أو نقد الأيديولوجيا ذاتها، ولعل النقد الثقافي مثال ظاهر على هذا الارتباط الوثيق بين النظريات النقدية والعلوم الإنسانية الأخرى فلسفية وثقافية واجتماعية وسياسية وغيرها ليقطع لنا برهانًا بالتَّماس بين النظريات والعلوم التي تدلل لنا على قبول التعددية النقدية؛ وكذلك يعتبر برهانًا آخر على ارتباط النظريات النقدية بعضها ببعض عندما يطبق ما بعد الكولونياليون النقد الثقافي باستحضار أو بتأثر بالنقد التفكيكي كما عند هومي بابا وإدوارد سعيد.
إذن نحن أمام نظريات نقدية فلسفية وفكرية لم تقتصر على النقد الأدبي فحسب بل تجاوزته إلى تطبيقها على علوم إنسانية أخرى عديدة كالنظرية البنائية والسيميائية والتفكيكية والظاهراتية وغيرها لتقنعنا بإمكانية التعددية واتساع تطبيقاتها.