قد يبدو تعبيري «مضادّات النسويّة» عنيفاً بعض الشيء، ومتأثّراً بأجواء الحرب، إذ ينزاح عن التعبير العسكريّ «مضادّات الصواريخ»، الذي يستوجب «مضادّات الاكتئاب»، لكنّه التعبير الأوضح الذي يمكن أن أصف به الكتابة التي تتجاهل النظريّة النسويّة أو تقاومها.
لا تكتب المرأة بمنظار نسويّ بالضرورة، فالكتابة، لا شكّ، أوسع من أن تنحصر بأيديولوجيا، أو حتّى بنزوع نظريّ محدّد، لكنّنا حين نتحدّث عن النسويّة، بوصفها حقلاً معرفيّاً، وسياسة هويّة، لا بدّ من أن نعكف على سياسة تجاهلها، التي تعتمدها القاصّة، والمترجمة، والأكاديميّة السوريّة علياء الداية، في مجموعتها القصصيّة «شهرزاد الكوكب»، والصادرة عام 2013 في دار الحوار.
يبدو العنوان نسويّاً، من حيث إنّه يستعير اسم «شهرزاد» أيقونة السرد النسويّ، التي حرّرت بنات جنسها، بتحويل الرجل إلى أسير لحكاياتها، كما يظهر في التفسير الثقافيّ النمطيّ لكينونتها، لكنّ شهرزاد في هذه المجموعة، وفي القصّة التي تحمل اسمها، تنتمي إلى مدار «ميتا» بشريّ، فهي مخلوق فضائيّ، جاء من زحل آخر غير زحل مجموعتنا الشمسيّة! ترفع شهرزاد الفضائيّة راية الاهتمام بتراث أهل الأرض، وبتراث المشرقيّين تحديداً، إذ تهتمّ بجماليّاتهم المتعلّقة بالثقافة العالمة، وغير العالمة، من مثل: رؤيتهم للقمر، بوصفه رمزاً جماليّاً، وبلعبة البرجيس، وبعلب الموزاييك، وبالمصابيح السحريّة، وبالمخطوطات... وتتقصّى مآل سميّتها شهرزاد من هذا الباب.
يشكّل الاهتمام بالتراث شغفاً لدى «علياء الداية» شخصيّاً، إذ يشغل أكثر من قصّة، ويندمج بكلّ من العجيب، والغريب، والفانتازيّ، فتظهر موجودات، ثمّ تختفي، كما في قصّة «محلّ التحف والمصباح السحريّ»، ويعبر الناس الزمن عبر التخاطر، أو بما يُسمّى بظاهرة الـ«ديجافو»، التي تنبني عليها قصّة «في حافلة النقل الداخليّ»، ويثق الناس بالحظّ، وبالعلامات الكونيّة، كما في قصّتي «الرجل الأصفر في فيسبوك»، و«عشر ليرات».
تحرص «علياء الداية» في نصوصها على تجاوز العتبة الفاصلة بين ماديّة العلم، وبين الأدب بوصفه خزّاناً معرفيّاً وجماليّاً، بذلك تصل بهدوء وبراعة إلى ساحة لعبها المفضّلة، أي إلى الخيال العلميّ الخلاّق المشغول بمنتهى الإنسانيّة، ولا شكّ في أنّ دمج الخيال بوصفه ملكة عقليّة، مع العاطفة النبيلة التي يمثّلها الجماليّ، اتجاه رئيس من اتجاهات كلّ من علم الجمال ونظريّة الأدب.
تتفرّد مجموعة «شهرزاد الكوكب» بتجهيز أقنعة عدّة مضادّة للنسويّة، أقنعة لكائنات فضائيّة، ولأطفال، وفتيان، ورجال، من حقول حياتيّة مختلفة: تجّار، وكتّاب، وسائقو سيّارات أجرة، كما نجد في قصص من مثل «رسالة بلا قيود»، و»الوجبة»، و»رسالة في زجاجة». نجد وراء تلك الأقنعة حبكات قصصيّة مبنيّة على سبك الماديّ مع اللاّماديّ: التراث، والخيال العلميّ، والحدس، والمكان، والتخاطر، والفقد، والتكنولوجيا، كما في كتابات «ج.ك.رولنغ» مؤلّفة «هاري بوتر»، و«دان براون» صاحب «شيفرة دافنشي».
تبدو صنعة القصّة القصيرة محكمة في نصوص «علياء الداية»، عبر مهارة القبض على لحظات أو حالات غير اعتياديّة، تجعل المتلقّي في حالة تأهّب للالتقاط المفارقة، كما في قصّة «لصّ الساعة الرابعة»، و«في مكان ما»، مثلما تبدو بارعة في حيّاديّتها، في التعامل مع المنظار النسويّ، الذي تستعيره أحياناً مثلما قد يستعيره أيّ كاتب، لكنّه يتجلّى معها بمنتهى الأصالة الجندريّة، حيث تظهر أموميّتها، وتظهر تجاربها المنبثقة عن أدراج الطفولة، التي تخبّئ ذكريات مؤنّثة منمازة، نلمحها في قصّة «قصر الخال» عند الحنين إلى الجدّات، وسرد تاريخ صناعة الضحيّة، كما نلمحها في قصّة «في حافلة النقل الداخليّ»، حيث حدس الأمّ بفقد ولدها، وفي «مساء الخير ياسالي» حيث يتجلّى التفجّع على الأخوّة الأنثويّة الغائبة.
تشكّل مضادّات النسويّة، القويّة والمحكمة، التي تشتغل عليها «علياء الداية» في «شهرزاد الكوكب» أدوات فنيّة فاعلة في خلق تنوّع في ميكانيك القصّ، لكنّها، أيّاً كانت فاعليّتها، لا تغيّب الوجه الإنسانيّ للتعبير النسويّ المبنيّ على اختلاف التجربة الجندريّة، ممّا يعدّ مكسباً ثقافيّاً، معرفيّاً وجماليّاً، لكتابة النساء.