Saturday 18/10/2014 Issue 447 السبت 24 ,ذو الحجة 1435 العدد

نقد مقولات الخطاب الديني- السياسي

3. مقولة : (تطبيق الشريعة الإسلاميّة)!!

(أ)

حينما تعتمد الحركات الدينية- السياسية في خطابها مقولات: (الحاكميّة لله، الإسلام دين ودولة) فإنّها تبحث بعد ذلك عن المقولة/الشعار، أداة لإقناع أتباعها بالانتقال من مرحلة الإعلان والاعتراض الديني إلى امتحان التطبيق كضرورة للانتقال من العمل الديني- السياسي في شقّه التبشيري إلى شقّه المسلّح، وهي الإشاعة التي يردّدونها (شيطنة الدول والمجتمع والإنسان) وصولاً لرفض الدولة وقبول الخروج عليها وتدمير مؤسّساتها؛ فالسؤال الذي يرفعونه حجّة: (لماذا تراجع المسلمون؟ لماذا فقدنا أسباب القوّة؟) وهم يعلنون صراحة أنّ ذلك بالابتعاد عن الإسلام، ولكن عن أيّ إسلامٍ؟ هذا هو السؤال، وهي التي تتمثّل فيها المقولة الثالثة: (غياب تطبيق الشريعة الإسلاميّة)، وهي العبارة التي توحي مباشرة أنّ الدول العربيّة التي تواجه هكذا اتهام تنطلق من تشريعات تجرح روح الدين العام، وفي المقابل والتزامن أيضاً تكون المقولة هي الآليّة لتنفيذ ما يتبع مقولتي الحاكميّة لله والإسلام دين ودولة..، وهي مقولات كما سبق وأن أوضحنا في المقالات السابقة، مبتورة ومستغلّة لأجل الخروج عن الكيان السياسي وتصديعه تحت قدسيّة الدين والتخوّف من نقد خطابهم، لأنّه يقترب من حدود يكون النقد فيه خطيراً جدّاً، وقد يحمل وجوهاً تعصم المرء من التورّط فيها. وأنت لا تعلم كيف تكال هكذا تهمة: (المسلمون بعيدون عن الإسلام) في مجتمعاتٍ لم تكن يوماً أقرب تعلّقاً بالإسلام وتفاصيله وتاريخه، حتّى بقي المسلم من شدّة الخشية وانفلات الخلط بين الديني والدنيوي لا يعلم ما هو الإسلام بوصفه ديناً، أو الإسلام بوصفه تاريخاً دنيويّاً تحت تأثيرات الإسلام السياسي وخطابه المنتشر منذ سقوط الخلافة العثمانيّة!

ماذا يعني تطبيق الشريعة الإسلاميّة؟ إلى أي مدى يتّفق أصحاب الخطاب الديني- السياسي على تعدّد أشكاله وأحزابه وممثّليه على وجود دستور أو دفتر واحد يسمّى (شريعة إسلامّية): يتضمّن مواد وبنوداً تمّ الاتّفاق عليها بين الخصوص والعموم العربي الإسلامي؟ فأنت على قدر ما تسمع هذه المقولة تُلقى بسلاسة ويَتجُرُ بها كلّ مُدّعي سياسة من جُبّة الدين، لتظنّ أنّ هناك فعلاً وثيقة جاهزة ودستورا متّفقا عليه، وكلّ ما يلزمنا هو إزاحة الدستور (الوضعي) في هذه الدولة أو تلك على حد تعبيرهم، والإتيان بدستور الشريعة الإسلاميّة غير المطبّق (غير الوضعي- المقدّس)، وحتماً فإنّ هؤلاء الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلاميّة هم أولى من غيرهم بهذا التغيير الانقلابي! ماذا تعني هذه المقولة غير طعنها في الدساتير القائمة بوصفها ضدّ الإسلام- الدين. ومن هنا فإنك لا تقوى على تبرئة المقولة على المباشرة والاقتضاء من حملانها للمدلولات التالية: (وجود شريعة إسلاميّة متّفق عليها (غائبة) وهي في حالة فكريّة نظريّة ويلزم تطبيقها وهي مقدّسة وليست وضعيّة، صلاحيّة هذه المواد النظريّة للدولة والمجتمع والفرد في كل زمان ومكان، اتّهام صريح لغياب الدساتير العربيّة عن روح الشريعة الإسلاميّة لأنّها وضعيّة، اتّهام مبطّن للطبقات السياسية الحاكمة لأنها لا تجمع بين الدين والدولة).

(ج)

تقوم ادّعاءات الخطاب الديني- السياسي على وجود مواد دستوريّة جاهزة للتطبيق، وأنت إذا ما حاولت أن تفهم منهم ماهيّة هذه البنود وطبيعتها: وجدتها محصورة في أحكام قضائيّة تأويليّة لحالات محدودة، وأخرى متعلّقة بحجاب المرأة وما يتعلّق بها والسيطرة عليها، ولوجدتهم يحاربون في خطابهم كلّ منتجات الحضارة القائمة، وإذا ما سألتهم ما علاقة هذه التصوّرات والافتراضات بدستور وطني تقوم على أساسه دولة لتنظيم العلاقات السياسية والاقتصادية والتشريعيّة والتنفيذية فما أظنّك سوف تلقى استيعاباً، فشتّان بين خطاب يختزل الدولة كلّها في شخصه وأطماعه وبين إدارة الدول على أسس مصالح مكوّناتها الداخلية والخارجية؛ ولك في التعثر الذي واجه الإخوان وهم أقدم وأوسع الحركات تنظيماً وعديداً وكوادر بين أطباء ومهندسين وعلميين وأدباء ومثقفين ومتفقّهين في الدين، وهم روّاد التبشير بمقولات الخطاب الديني- السياسي التي لم تعد حكراً عليهم بل تحملها حركات الإسلام السياسي جميعاً، وعلى الرغم من ذلك فشلوا في إدارة دولة مدنيّة معاصرة، وخلطوا بين المعتقد الشخصي الإنساني وبين أسباب الدنيا، فانظر إلى ما وصلت إليه الأمور في مصر؛ وانظر سابقاً: هل كان للسودان أن ينقسم إن لم يحتلّه عسكرٌ يستغلون الخطاب الديني- السياسي فانظر ماذا حلّ به منذ تطبيق ما يسمّى بأحكام الشريعة في عهد النميري وانتهاءً باستفتاء استقلال الجنوب.

(د)

يحيل دعاة الخطاب الديني- السياسي مقولتهم (تطبيق الشريعة الإسلامية) إلى أحكام مستمدّة من المتن القرآني ومرويّات عن النبي العربي عليه السلام وأصحابه من الرعيل الأوّل عبر آلية التفسير والتأويل وليس القطع والإجماع، وأخرى عبر اجتهاداتهم أو تلفيقاتهم فيما يتعلّق برفض المستجدّات من الحضارة، وبعض حالات عليهم شبه اتفاق: وهم في الحالات الثلاث: بين (اختلاف، اتفاق، اختلاق) يقعون في شبهة الوضعيّة التي يرفضونها في الدساتير القائمة.

ففي حالة الاختلاف فإنّ التشريعات محلّ اختلاف تاريخي، ومحلّ اختلاف عبر المذاهب المتعدّدة فإلى أيّ مرجع نريد أن نطبّق هذه التشريعات وتبعاً لأيّ تفسير وتأويل؟ وماذا عن تعدّد المذاهب في بلدٍ واحد؟ فأنت في حالة الاختلاف فاقد للقدرة الواقعية على تطبيق رؤية واحدة لمجموعة من المفسّرين، أمّا في حالة الاتفاق فإنك لن تجد دستوراً عربيّا يخالف صراحة قاطعة روح المسائل القطعيّة وتضمينها بطريقة أو بأخرى، فماذا تبقى من ادّعاءات الخطاب الديني- السياسي في حجّة (تطبيق الشريعة الإسلاميّة)، غير اعتبارها (قميص عثمان) لأجل إثارة الفتنة والانشقاق عن الدولة.

إنّ دلالة وجود اختلاف فقهي تنعكس باستحالة جعله دستوراً إلاّ على دلالة إنسانيّة تفقد التشريع ذاته الصفة التي يدّعيها أصحاب الخطاب الديني، ويؤول مرّة أخرى إلى دستور وضعي، فنحن في مواجهة حجّة الوضعيّة نردّها عليهم بحيث إنّ الوضعيّة قائمة في الحالتين. كما أنّ هذا الدستور الذي سوف ينتصر لقراءة تراثية على أخرى سوف يحظى بالقبول عند فئة وبالرفض عند فئة أخرى، وإذا ما أخضعنا الدستور للاستفتاء فها نحن مرّة أخرى نتساءل: (هل يقبل عقلاً أن يتمّ الاستفتاء على أمرٍ مقدّس بالقطعيّة؟) إنّ مسائل العقيدة والشريعة الفردية كما أنها غير خاضعة للمنطق فإنّها كذلك غير قابلة للتصويت... هكذا نجد أنّ من طبيعة الدستور أن يكون انعكاساً للظروف المكانية والزمانية، وانعكاساً لمكوّنات الدولة، وانعكاساً لطبيعة في الدستور تجعله وضعيّاً في جميع حالاته: إن وضعه القانونيون وفقهاء الدستور أو اشترك في وضعه متفقّهون في الأديان. وهو ما يسقط حجّة الخطاب الديني- السياسي بوضعيّة الدساتير وضرورة إحلالها بدستور يلتزم تطبيق الشريعة الإسلامية، فالدلالة الكبرى من وراء هذه المقولة، هو الوصول إلى الدولة الدينيّة التي تعتمد الحاكميّة لله وتجمع بين رجال الدين والدولة، ولا يكون مجالاً في هكذا دولة لأحد في إدارة الدولة إلاّ رجال الدين، وفقاً لتعريفهم لمفهوم الخلافة: (سياسة الدنيا بالدين نيابة عن صاحبة الدعوة النبي العربي عليه السلام).

ياسر حجازي - جدة