لا أكون مبالغًا إذا قلت إن هناك الكثير من الجوانب غير العلمية لا يعلمها الناس عن الأستاذ الدكتور تمام حسان، حيث هناك الكثير من المراحل الإنسانية والاجتماعية تكون خافية في حياة الشخصيات العظيمة، وتمام حسان إحدى هذه الشخصيات العظيمة التي لم تكتشف بعد في كل تفاصيلها، فأغلب المعروف عنه: الباحث/ المفكر/ العالم/ المجدد... ولكن يغيب عنا تفاصيل يومياته خارج الإطار البحثي وتفاصيل حياته الخاصة- ولذا رأيت اليوم أن أخصص مقالتي عن ذكر شيء من إنسانية هذا الرائع، ووجدت أن أفضل من يتحدث عنه واحد من أسرته فلا شك أن وصفه سيكون واقعيا بخلاف ما أستنبطه أنا إذا ما أردت الحديث على لساني، يقول الدكتور هانئ تمام عند رحيل والده:
لا أدرى ماذا أقول لك يا حبيب القلب، لقد كنت أرى فيك يا والدي الحبيب تواضع العلماء وحبك لتلامذتك الذين سيفتقدونك ويفتقدون منك كل الصفات الطيبة من علم وفكر مستنير وتواضع وعزة نفس وطيبة قلب ورقة مشاعر وطهارة نفس، وكيف أنك كنت فريدا في مجالك ورائدا فيه، حتى أنهم وصفوك بأمير ومجدد النحو العربي والدراسات اللغوية الحديثة أو سيبويه الجديد. ويذكر الدكتور هاني احترام الشيخ للمواعيد التي كان يضربها لتلاميذه، وكيف كان يستعد للقائه ويجهز له كل ما يمكن أن يحتاج إليه من مراجع وكتب قبل أن يأتي، وكيف كان حماسه للقاء طلابه ومحاوراته معهم.
إن الدكتور تمام حسان لم يكن من الذين يبحثون عن شهرة أو دعاية، ويصف الدكتور هاني إيذاء مشاعر والده حينما يلقى كل التقدير والاحترام والجواز أينما ذهب، في حين أن بلده لم تمنحه شيئا من ذلك، ولم يكن تمام حسان من الذين يسعون إلى أخذ جائزة أو مكافأة مع اعتراف الجميع باستحقاقه لها، ولكن كما ذكر لي رحمه الله ذات مرة (بنت البيت عورة)، وكما قال هاني تمام (شادية الحي لا تطرب).
ويذكر د. هاني تمام بعض الذكريات الجميلة التي تجسد لنا تمام حسان الإنسان والأب والمعلم، يقول الدكتور هاني لوالده -رحمه الله-: «ليس لى الآن سوى بعض الذكريات الجميلة التي ستعيش معي إلى النهاية- سأتذكر دائما كيف كنا نحن أبناءك أهم ما في حياتك، وكنت تهتم دائما بمتابعة تعليمنا وتحرص على مكافأتنا حين نتفوق، وكيف كنت تزرع فينا قيمة الكتاب، حتى أنني أذكر أنك كنت تفتش على كتبنا لترى من فينا يحافظ على كتبه نظيفة ومرتبة، وكيف أنك أيضا لم تكن لتتخلى أبدا عن فسحة يوم الجمعة لترفه عنا وتكافئنا على عمل الأسبوع، ولا أذكر أبدا أنك فكرت في الترفيه عن نفسك ونسيتنا نحن.
سأذكر كيف كنت توصلنا إلى المدرسة في طفولتنا بسيارتك السوداء الجميلة خوفا علينا من خطر الطريق.
سأذكر أيضا إجازة الصيف في الإسكندرية على الكورنيش، وكيف كنا نمرح معا ونلعب بطائرتنا الورقية في هواء البحر.
وسأذكر حبك لأغاني عبدالوهاب، وكيف كان صوتك جميلا وأنت تشدو بها ونحن نردد معك في سهراتنا الجميلة في ليالي الصيف.. سأظل أذكر يا أبي الحبيب كيف كنت تصحو ليلا قبل الفجر بساعة لتستمع لإذاعة القرآن الكريم وتقرأ القرآن حتى موعد الأذان، وكم كان حرصك على أن تختمه عدة مرات في رمضان، وكم كنت أتوق إلى سماع صوتك وأنت تقرأه، وكيف كنت حزينا في أيامك الأخيرة لأنك كنت مضطرا لأن تصلي جالسا بسبب آلام الركبتين.
سأذكر أيضا كيف أنك في سنواتك الأخيرة كنت مصرا على تعلم كيفية استخدام الكمبيوتر لتكتب كتبك ومقالاتك بنفسك، وقليل من هم في مثل عمرك ويستطيعون فعل ذلك. وسأذكر يا أبي الحبيب كيف اكتشفت بعد وفاتك أنك كنت تحتفظ في محفظتك بصورتين لكما معا، حتى تكون أمي الحبيبة معك أينما ذهبت، ما هذا الوفاء النادر والحب النبيل؟!
لقد كنت يا أبي نادرا في كل شيء، فريدا في خلقك وعلمك، ولا نملك الآن إلا الدعاء لك بالرحمة والمغفرة، وأن يجازيك الله تعالى خيرا لكل ما فعلته لكل من حولك. هذه صورة ناطقة نابضة بكل المعاني الجميلة التي يمكن للأجيال أن تستمدها من معلم الأجيال تمام حسان، تمضي ذكراك الرابعة في هدوء، وتبقى شامخًا في رحيلك.