مررنا في المقالة السابقة من هذه السلسلة على عدد من أهم الموضوعات أو المجالات التي تهتم بها الفلسفة بشكل عام، ونواصل المرور في هذا الجزء على بقيتها:
و- الأخلاق:
يكفي أن يعرف المبتدئ المستهدف بهذه السلسلة أن فلسفة الأخلاق تهتم بالبحث في ماهيّة الأخلاق، ومن أين جاءت، ولماذا جاءت وكيف، وما الغاية منها؟.. إنها تحاول التدقيق في مقاييس التفريق بين السلوكيات الحسنة الجميلة والسلوكيات السيئة القبيحة، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين النافع والضار.. وتجتهد في المفاضلة بين المرتكزات والمرجعيات والمناهج والتصورات والرؤى والضوابط والمواقف الفكرية المختلفة في موضوع الأخلاق، التي تختلف باختلاف المجتمعات وما فيها من عادات وموروثات وتقاليد وأعراف متباينة.
توضح فلسفة الأخلاق وسائل وسبل وطرق اختبار الآراء والمواقف المتعلقة بالأخلاق، وتساعدنا على تفحص النظم الأخلاقية، واختيار الأفضل والأكمل منها للإنسان، وتضع الموازين والمعايير التي تصدر وفقها الأحكام الأخلاقية على الأعمال والسلوكيات البشرية المختلفة.
الإنسان حر، وحريته -عندي- هي أسمى ما فيه وأثمن ما يملك بلا أدنى شك، والفلسفة تبحث في الأسباب التي تدفع الإنسان للقيام بسلوكياته ككائن يملك حرية الاختيار، وفي الغايات التي يرجوها ويهدف إليها من تلك السلوكيات والأعمال الاختيارية المتعددة.
الإنسان الذي يفعل كلَّ ما يحلو له بالطريقة التي يشاء في أي وقت دون تنظيم لإرادته الحرّة، قد يضر نفسه وغيره في أحيان كثيرة، ولذلك تهتم الفلسفة بعلم الأخلاق، الذي يعلّمنا كيف نتجنب ما يسرنا إذا كان سيضرنا في النهاية، سواء جاء الضرر على المدى القريب أو البعيد.
تُعلّمنا فلسفة الأخلاق مثلاً، أن الحكم على خُلُق أو قول أو فعل أو أيِّ سلوك ظاهر أو باطن بالخيريّة أو بالشريّة، إما أن يكون مصدره -أيْ مصدر الحكم- عقل الإنسان الحاكم أو وجدانه أو ضميره، وإما أن يكون مصدره ما يحيط بالإنسان، كتشريعات القانون، أو عادات المجتمع وأعرافه، أو التعاليم الدينية وفق فهمه وقناعته هو؛ أي وفق فهم مُصْدِر الحكم أحيانًا إن كان مستقلاً، أو وفق فهم رجال الدين والوعاظ البارزين في مجتمعه إذا كان خاضعًا لهم.. وبذلك تظهر فائدة من فوائد (فلسفة الأخلاق) حيث نستطيع عبرها المقارنة بين تلك المصادر، وفحصها وتمحيصها للوصول إلى ما يقنعنا ويريحنا ويسعدنا.
وأختم بشيء من أبجديات فلسفتي الخاصة حول الأخلاق فأقول: من المستحيل -في نظري- أن تقوم للأخلاق قائمة جيدة ثابتة متوازنة على أرضية الفرض والإجبار والإكراه والوصاية، والإنسان لن يكون خيّرًا فاضلا أبدًا بهذه الطريقة؛ لأن الأخلاق الصادقة قناعة ذاتية قبل أيِّ شيء آخر.. يجب على الواحد منّا إذا أراد قطف ثمار الأخلاق، أن يزرع أشجارها في تربة الإيمان الحقيقي القوي بها، مهما كانت في نظر غيره.. وأن يسقيها بالمياه النقية؛ مياه الاستقلالية في الحكم والاختيار.. لا بالمياه الملوثة؛ مياه الخوف من القانون أو المداهنة الاجتماعية أو النفاق الديني أو ما شابه ذلك!.
وتجدر الإشارة إلى أن الفلاسفة خاضوا وتجادلوا وتعارضوا كثيرًا في موضوع الأخلاق بصورة واسعة جدًا قلّما نجد لها مثيلاً.. وفي الاطلاع على حججهم ومذاهبهم واختلافاتهم في هذا الشأن متعة لا توصف ولذة عقلية بلا حدود، يعود نفعها على حياة الإنسان بكل ما فيها دون مبالغة، وخاصة على سلوكه بلا شك، ابتداءً من إمامي الفلسفة سقراط الحكيم وأفلاطون العظيم، وما قيل عن الأخلاق قبلهما، ومرورًا بأرسطو ومؤلفاته الثمينة في الأخلاق، وعلى رأسها كتابه الشهير «الأخلاق النيقوماخية» الذي ألّفه لابنه نيقوماخوس، وانتهاءً بما كتبه الفلاسفة المتأخرون والمعاصرون في موضوع الأخلاق.
ز- فلسفة التاريخ:
يجب على المستجد في الاطلاع على هذه النقطة التفريق بين كل من: 1- التاريخ. 2- فلسفة التاريخ. 3- تاريخ الفلسفة. وسأبدأ بالثالث لإخراجه عن موضوعنا، فليس له علاقة به، رغم أهميته الكبرى لدارس الفلسفة والمهتم بها.
تاريخ الفلسفة يُعنى برصد وسرد وتقصّي واستعراض وتسجيل قضايا وأفكار وقصص وأحداث وآثار ومعلومات وأخبار الفلسفة والفلاسفة عبر الزمن، وفهم كل ذلك في سياق تاريخي.. إنه علم يهتم بنشأة الفلسفة وتطورها من بداياتها القديمة الأولى، بل من إرهاصات تلك البدايات ومقدماتها التي تسمى «ما قبل الفلسفة». يدرس تاريخ الفلسفة مفاهيم الفلسفة وتكوّنها على مرِّ العصور، وتحولاتها وتشعباتها وتقلّباتها التدريجية، ويصف ويوثّق ويحفظ كلَّ حوادثها ووقائعها الماضية، وأوصي هنا من أراد التعمق في هذا بقراءة كتاب «قصة الفلسفة» لديورانت كبداية، ثم الانتقال إلى غيره من كتب تاريخ الفلسفة العديدة، ومن أجملها في نظري مؤلفات الأستاذ يوسف كرم المتنوعة الرائعة السلسة؛ كلّها بلا استثناء.
نعود لفلسفة التاريخ، فما هي، وما الفرق بينها وبين التاريخ؟!
لسان حال الفلاسفة هنا: من المهم أن نفهم التاريخ.. من الرائع الماتع النافع أن نتعرف ونطّلع على قصص حروب ومغامرات وحضارات وأزمات وأحداث واستعماريات وهزائم وانتصارات وأنباء الشعوب الماضية، وعلى حكايات نشوء الدول والأوطان واستقلالياتها ونهاياتها وانهياراتها على مرِّ الأزمان، وعلى آثار وقصص المجتمعات وأخبار تطوراتها وتقلبات ثقافاتها وتغيراتها المختلفة.. ولكن فلسفة التاريخ شيء آخر مختلف عن هذا كلّه!. إنها لا تهتم كثيرًا بكل ما سبق، أو بصياغة أدق: لا تتوقف عند ما سبق، من اهتمامات التاريخيين المتمثلة في تسجيل وتوثيق وتقصّي وتمحيص الوقائع والآثار والمعلومات والأخبار..
نستطيع أن نقول بإيجاز: فلسفة التاريخ تبحث في «اللماذات» وقد يقول البعض: التاريخيون أيضًا يجيبون عن أسئلة تبدأ بـ»لماذا» من قبيل: لماذا حدثتْ المعركة الفلانية؟ لماذا انهارت الدولة الفلانية؟ ما أسباب انتصار الحاكم الفلاني؟ ما أسباب الغزوة الفلانية؟ علّل حدوث كذا وكذا وكذا من الوقائع والحوادث والأخبار التاريخية الكثيرة اللا محدودة؟
الفرق كبير بين التاريخ وفلسفة التاريخ في هذا، وهو أن فلاسفة التاريخ يبحثون عن إجابات كلّية شاملة واسعة عامة، لا جزئية ضيقة خاصة؛ أي أنهم لا يتوقفون عند سبب معركة معينة أو قيام كيان سياسي أو انهيار دولة أو حصول أي حدث محدد.. بل إنهم من جهة: يحللون ويعللون الوقائع التاريخية الماضية بصورة كليّة، لاستنتاج واستنباط التوقعات المستقبلية.
ومن جهة أخرى: يبحثون في التاريخ عن القوانين التي تحرك المجتمعات، وقبل ذلك يتساءلون: هل المجتمعات حقًا تتحرك؛ تقدمًا وتقهقرًا وصعودًا وانهيارًا- في أيِّ مجال- وفق قوانين معينة، أم أنها أمزجة وأهواء الحكام والسلاطين، وحظوظ وصدف الشعوب والأوطان؟!
ومن جهة ثالثة: فلسفة التاريخ تنشغل بالدواعي والتعليلات والعوامل والتبريرات أكثر من انشغالها بالكيفيات والآليات ووصف الأحوال، إن كانت تنشغل بالكيفيات أصلاً.
ومن جهة أخيرة: الفلاسفة يجتهدون دائمًا في الإجابة عن أسئلة تاريخية كبرى مثل:
ما هو العامل الأقوى في نشاط المجتمعات وتحولاتها وحركاتها المختلفة وانتقالها من حال إلى حال؟ أهو العامل الديني أم الاقتصادي أم الاجتماعي أم الطبيعي، أم غير ذلك من الدوافع والعوامل؟!
ما هي طبيعة علم التاريخ؟! وما هي مقاصده الكبرى ومراميه؟ وقبل ذلك: هل له غاية أصلاً؟ وما هو دور الإنسان في كل ذلك؟!
إن استيعابنا للماضي وكل ما حدث في التاريخ الإنساني بصورة شمولية عامة كليّة، يجعلنا نتعرف على النقاط العامة والقواسم المشتركة المؤثرة بوضوح فيه، والتي نستطيع أن نسميها (قوانين وعوامل حركة المجتمعات). مع ضرورة الانتباه هنا إلى أن كثيرًا من المهتمين بهذا الموضوع قالوا كلامًا كثيرًا ألخصّه في: «حوادث التاريخ فرائد حصلت في أزمانها بظروفها ولن تتكرر». ويجب أن نتساءل بناء على كلامهم: ما هي الفائدة إذن من الوصول إلى القوانين والعوامل الأساسية التي أثرت في تاريخ الأمم والشعوب الماضية؟. والجواب بإيجاز هو: نعم، لن تتكرر معركة أو غزوة بنفس الصورة؛ ولكن ظاهرة الحروب مستمرة، والشروط التي تؤدي إلى نشوبها بشكل عام متقاربة. نعم؛ لن يتكرر سقوط دولة سقطت قديمًا، ولن تتكرر قصص الاستعمار والاستقلال السابقة -مثلاً- بحذافيرها مستقبلا؛ ولكننا أمام عدد من الأسباب والتعليلات والشروط التي تحكم سقوط الدول، وتتحكم في ظاهرتي الاستعمار والاستقلال غالبًا. وهكذا دواليك مع بقية ظواهر وأحداث التاريخ التي يرتبط استمرارها وصوره بإرادات البشر وبوصلات تلك الإرادات.
ح- علم الجمال:
بداية أحب أن أبوح بكلمات قصيرة: كلُّ ما حولنا من أشياء تنبض بالجمال، تجعل قلوبنا تنبض بالإيمان بمبدعها. هذا قولي، وسبقني الكثيرون في الاحتجاج بالجمال على وجود الخالق الجميل الجليل وعظمته.. وفي هذا يقول أرسطو مثلا: «الجمال دليل على وجود إله بارع الصنعة».
فما هو الجميل وما هو القبيح؟
الجواب السهل الذي يتبادر للذهن هو: الجميل ما نشعر بجماله، وترتاح له نفوسنا وتقبل عليه، والقبيح هو ما تستنكره النفس وتنصرف عنه. وفي هذا يقول نيتشه: «كل ما كان قبيحًا يُضعف الإنسان ويقبض صدره، إذ يذكره بالانحطاط والخطر والوهن».
الأمر ليس بهذه السهولة، ولا بالسطحية الواردة في الإجابة السابقة؛ فقد ينعتُ أحدنا صوتًا بالجميل، ويصفه آخر بالقبيح.. قد أشاهد صورة فأقول: يا الله ما أجملها.. وقد تشاهد أنت نفس الصورة فتقول: ما أقبح هذه الصورة!!
الأستاطيقا أو فلسفة الجمال إذن: هي البحث في ماهيّة الجمال، وفي كلِّ ما يتعلق به، وفي كيفية وآليات ومعايير تقييم الأشياء جماليًا والتمييز بين جميلها وقبيحها..
هل الأشياء الجميلة جميلة في ذاتها، أم أن جمالها نتيجة لمحبة الإنسان لها وإعجابه ب ها وفق مقاييسه الخاصة؟ متى نحكم على الشيء أنه جميل؟ ما مقاييس الجمال؟ ما هي الصفات التي تجمع الأشياء الجميلة؟ هل مصدر إدراك الجمال هو الحواس فقط، أم العقل فقط، أم العقل والحواس، أم أنه شعور داخلي عام مباشر؟
ما علاقة الجمال باللذة؟ ما علاقته بالأخلاق؟ بالفن وبالمنفعة؟ هل كل نافع جميل، وهل كل جميل نافع؟ ما علاقة الجمال بمواضيع أخرى كثيرة؟
لماذا وكيف تفرحنا بعض الأشياء القبيحة أحيانًا، ولماذا وكيف تحزننا بعض الأشياء الجميلة في أحيان أخرى؟ ما الفرق بين الجمال المصنوع والجمال المطبوع في تأثيرهما علينا، وما الفرق بين جمال الذات وجمال المعنى؟
هل هناك جمال مطلق؟ وهل لذة الجمال يجب أن تكون مقصودة لذاتها كما يرى كانط، أم أن خلفها غاية؟ وهل الجمال من مرادفات الخير كما يقول أفلاطون، أم أن العلاقة بينهما ليست علاقة ترادف؟!.
كل هذه الاستفهامات تبحثها فلسفة الجمال أو «الأستاطيقا»، وينقسم الفلاسفة في مواقفهم وإجاباتهم هنا -كما هي عادتهم في كل المواضيع- إلى معسكرات كبيرة، وفي داخل كل معسكر منها معسكرات أصغر.. يتصارعون ويتعاركون فكريّاً، ويتجادلون مجادلات حامية الوطيس عند عرض وتقديم ودحض وتفنيد الحجج والاستدلالات والبراهين.
ط- فلسفة الاقتصاد:
الفرق بين الاقتصاديين وفلاسفة الاقتصاد باختصار مبسط -في فهمي- هو أن الاقتصاديين يبحثون في النظم الاقتصادية على حدِّ ذاتها.. يبحثون في الاقتصاد كعلم موضوعي، ولذلك يعزلون العلاقات الاقتصادية عن غيرها، ولا يهتمون كثيرًا بالعوامل غير الاقتصادية المؤثرة في الحياة الاقتصادية، ومن هنا تظهر أهميّة فلسفة الاقتصاد.
ولمزيد من التوضيح أقول: فلاسفة الاقتصاد يهتمون بما وراء الاقتصاد وما بعده إن صحَّ التعبير؛ أي أنهم يتعمقون -مثلاً- في الأسس والعلل والنظم والدوافع التي قام عليها وبها ولها، وفي المقاييس والمعايير التي يقيّم من خلالها، والتي تكون غالبًا معايير غير اقتصادية، كالعدالة والحرية وغيرهما.. إنهم يتفلسفون -أيضّا- في الوصول إلى غايات ومرامي الأنشطة الاقتصادية مفترقة ومجتمعة وبيانها وتوضيحها، ويركزون على عواملها غير الاقتصاديّة، وعلى علاقة الاقتصاد بغيره من المجالات والتخصصات والعلوم.
يعمل الاقتصاديون على صنع وإيجاد التوازنات بين الحاجات والموارد، وعن آليات وطرق زيادة الموارد تلبيةً لزيادة الحاجات؛ أما فلسفة الاقتصاد فنستطيع أن نقول: إنها تهتم -أكثر من اهتمام الاقتصاد إن كان يهتم بجديّة أصلاً- بماهيّة وطبيعة هذه الحاجات والموارد.
وأود أن أوضّح في ختام هذه المقالة أني استعرضت فيها وفي المقالة التي قبلها أبرز المواضيع والمجالات التي نالت عناية أهلِ الفلسفة، وهذا لا يستوجب بالضرورة أني أحطتُ بها علمًا، ولا أني أصبتُ في كلِّ ما كتبته عنها، ولا يستلزم أني تطرقتُ لها بالصورة الأمثل الأكمل، فالباب واسع والآراء متشعبة ومتشابكة ومتصادمة ولا حصر لها.
نتوقف هنا الآن، ونختم هذه السلسلة بتسليط الضوء على أهم )خصائص الفلسفة) في المقالة القادمة السادسة الأخيرة.