(ك)
ليس صعباً أن نرى عديداً من قرارات السلطة تُبنى على واقعيّة، مبتعدة عن تأثيرات الديني - السياسي وأقرب ما تكون إلى تأثيرات العلم - والثقافة، وهو ما يُنبئُ باتجاه توسّعيّ مع واقعٍ مغايرٍ على الواقع التاريخي لما كان عليه الاستناد السياسي إلى الديني، وهذا عينُ التمكين السياسي الواقعي، الذي يسعى للتقارب مع العلم والثقافة، والابتعاد عن الانتقاء التاريخي، ولعلّ في هذا ما يمهّد الطريق إلى تسوية المسألة الثقافية إذا ما ظهرت للنور بكامل مرجعيّاتها؛ فضرورة في التعاطي مع (المسألة الثقافيّة) عدم تحويرها لتبدو أنّها مشغولة بنقد سلطة رجال الدين، أو سلطة المجتمع فقط، بينما هي غافلة عن نقد السلطة، فهذا يدفع بالثقافة أن تكون أدائيّة وأدواتيّة في يد السلطة، ويدفع بنشوء ثقافة متوارية في الظلّ، وكلّ متوارٍ مُهدّدٌ بالتطرّف، هكذا فإنّ الأداة التي جِيءَ بها لتخفيف حدّة التطرّف من جهة، فإذا بالتطرّف يمسّ طائفة واسعة من المثقّفين أيضاً، لأنّ تقليص التنوّع الثقافي إلى حدود ضيّقة تحت جُبّة السلطة يسمح للثقافة الأهلية للعمل في العتمة في غياب النور.
قدر الواقع السياسي أن يقترب ويبني تحالفاته الداخليّة بالاستناد إلى واقعه وتركيبته ومكوّناته، وهو التوجّه الذي نراهن عليه بالانتشار والتوسّع في تثبيت حتمية العلم والثقافة كضرورة ودعامة أهليّة وحكوميّة لتقوية الدولة، إذا ما رصدت ميزانيّة للبحوث العلميّة القابلة للتنفيذ في مجال الدساتير والقوانين والقضاء والحقوق والقراءات المعاصرة للتراث والتاريخ لمواجهة استغلال المدوّنة الفقهيّة الذي انتشرت اجتماعيّاً بطريقة منتقاة تخدم أجندات لا تخدم مكوّنات، فإنّ مشروع الإصلاح يتحوّل من آني إلى مستقرّ تحرّكه وتطوّره ديمومة واقعية.
قد يقول قائل هذه مسألة حقوقيّة وليست ثقافية؟.. والحقّ: أصلٌ في العمل الثقافي إذا لم تكن غايته الإنسان وحقوقه وحريّاته فإنّ العمل برمّته يسقط في عدميّةٍ؛ لذلك فإنّ المسألة الحقوقيّة أصلٌ من أصول المسألة الثقافيّة، وهي مرحلة أعقبت المراهقة الحداثيّة - الصحويّة، وهي أكثر نضجاً مقارنة بما سبقها، وهي المرحلة الثقافيّة التي ما زالت مستمرّة ويُؤتى أُكلها بين حين وآخر، إضافة إلى ظهور ما بعدها المتأثّر بسقوط احتكار الثقافة وقراءة الدين، مشاعيّة المعرفة - بروتستانيّة الثقافة.
(ل)
مرّ عقدٌ منذ توزير الثقافة في السعودية، ولم يُفضِ إلى تخفيفٍ من حدّة التطرّف، أو انفتاحٍ في قبول الآخر المختلف - قليلاً أو كثيراً - وهو التطرّف والانغلاق الذي يحتلّ الواقع والوقائع، فإلى أيّ مدى اختلفَ استغلال المواطن السعودي بين تجنيده للقتال في أفغانستان أو الشيشان، وبين تجنيده اليوم للقتال في سوريّا؟!.. لقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعيّ أنّنا (بأكثريّاتنا) مصابون بهذا (المسّ الدموي)، فأين هو الخطأ الذي وقعت به السلطة والمثقفون في معالجة المسألة الثقافيّة، إن كان على صعيد التوازن المادي الوجودي لمكوّنات الدولة أو على صعيد مجابهة الخطاب الديني - السياسي بفساد تصوّراته القائمة على القتل والتصفية والأحاديّة، وتمثيله يوم الدينونة في الدنيا ومحاكمة الدولة والناس في أعمالهم، وتأهيل أتباع ذاك الخطاب المتضرّرين بسبب الخلط بين الدين والسياسة. أين الخطأ؟.. (أ) هل كان في غياب الثقافة عن التعليم، وإباحة التعليم أرضاً خصبةً لتفسيرات رجال الدين - السياسي ذوي الأطماع الانقساميّة في تقسيم المجتمع من لدنهم: (ضال، وهاد).. ولعلّ توزير الثقافة إن تزامن مع التعليم في مشروع ثقافي - تعليمي لأَخرجَ جيلاً محمّلاً بمشروعٍ مُتعدّد يرى الآخر شريكاً، ويرى الصلاح في الأشياء والأعمال وفق ما ترشح به هذه الأفعال والأشياء، لا وفق مرجعيّة ذهنيّة تفرّق الأشياء والأفعال لأجندة دينية - سياسيّة دون تمكين العقل والمنطق والواقع، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث، وكان لهذه (الثقافة المرسمنة) مشروعها الإصلاحي العجول، أو أهدافها وليس مشروعها، وكان للتعليم إجراء تغييرات في البرامج والمناهج لم تنسّق ثقافيّاً وحقوقيّاً بما يحقّق توازناً وجودياً هو أساس الإصلاح في مواجهة التطرّف.. (ب) وهل كان خطأ توزير الثقافة أنّه جاء - لا حبّاً بها أو التفات لضرورة حلّ مسألتها الأهلية - بل هدفاً في توظيفها للحدّ من التطرّف، وشتّان بين إباحة شيء على الإطلاق، وبين إباحةٍ محدودة؟.. (ج) وهل غياب القنوات الأهلية الثقافيّة عثّر في تحقيق هدف التوزير، وإن وجدتْ هذه القنوات، فتكاد تكون محشورة في الصالونات الخاصة قيد العتمة، لا قيد النور.
أين هو الخطأ ونحن نرى المرحلة التي تمّ فيها (توزير الثقافة) لا تختلف كثيراً عن واقع المرحلة اليوم؟.. وأيّما اختلاف طفيفٍ في مدى ظهور الفرديّات الثقافيّة المستقلّة، فإنّ سببه الحال التي يخلقها المشاع الفضائي والمعرفي وانكسار احتكارين: (قراءة الدين والثقافة)، فما كانت السلطة طرفاً فيه، وما كان المثقّفون طرفاً مؤثّراً في التنوير الفضائي - الفرداني بل كانوا تابعين متأثّرين؛ وأنتَ لن تغلب في ملاحظة السطوة والعبثيّة التبعيّة التي فرضها المشاع الفضائي على مفكّرين ومثقّفين وأكاديميّين سعوديين دخلوا التجربة من باب إصرارهم على الوجود والظهور، ثمّ سرعان ما تورّطوا بها على الظنّ أنّهم يؤثّرون، والمراقب والمتابع لن يضنى في رصد التبعيّة التي وقعوا في شراكها، فكانوا تحت تأثير المشاع وشروطه وفوضاه تابعين لا مبدعين.. ومرّة أخرى، نُغرَّر بالشكل أو نُغرِّر الآخرين بنا شكلاً لا مضموناً، ففي أيّ قناة ثقافية كيف تغيّر شكلها: منابر عامّة، موجات على الراديو، ملاحق ثقافيّة في الصحف، قنوات فضائيّة، شبكات النت، سوف تجد مضمون الطروحات وطرق التفكير ما زالت في تيهٍ بين أفرقاء تتوزّع حمولاتهم بين دعاة القديم: (خارج الزمن) وبين دعاة الجديد: (خارج المكان).
ليس بدعاً القول إنّ دعاة القديم يحملون فكراً تقادمَ زمنيّاً مع الواقع ولم يعد له ممثّلاته الإصلاحية والصالحيّة، فما كان صالحاً في بدء تأسيس المملكة ومتماشياً مع الواقع وخادماً له، ليس بالضرورة صلاحيّته اليوم؛ فكيف بمدونات فرضتها الظروف الواقعيّة للأمويين والعبّاسيين والعثمانيين، فأيّ ظنّ في صلاحها اليوم؟.. فأيّ دعوة للعودة للماضي إنّما هي باعترافهم وبخطابهم دعوة للخروج عن الدولة والزمن معاً، فهذا جانبٌ من مكوّناتنا أثّر على شرائح كبيرة من الناس حتّى غدت في تيهٍ (خارج الزمن) كما حال دُعاتهم - رُعاتهم.. بينما دعاة التجديد يخطئون البوصلة حينما يفاوضون طرفاً ليس بيده أوراق الحلّ، ويحملون أفكاراً تحقّقت واقعاً وهي جزءٌ من واقع الغرب، فتكاد على عقلانيّتها وواقعيّتها أن تكون خارج المكان، لأنّها غير قابلة للتحقّق في واقعٍ تعيش يومها بالاستناد إلى مرويّات تاريخيّة، أمّا ما يأتي من الحاضر فمسٌّ مكروهٌ ومحرّمٌ، وتحت الاضطرار يدّعون استخدامه.
(م)
المسألة الثقافيّة السعودية ليست في التعارض بين ما تريده السلطة من الثقافة، وما يريده المثقّفون المجدّدون والمثقّفون الدينيّون لأنّ التعارض قائم في كلّ مكان وزمان، بل العلّة - هنا - أنّ هذا التعارض ظاهر على مستوى تعثّر النتائج لكنّه مستور ومخفيّ في سبب تلك النتائج وعواملها، وموارى عن طاولات التفاوض، بحيث إنّك أقرب ما تجدهم جميعاً يدّعون المرجعيّة عينها بينما تتعدّد غاياتهم وطرق معالجاتهم للمسألة، واللا - واقعيّة والتيه منبتُه خطاباتهم الموزّعة بين خطاب خارج الزمن وآخر خارج المكان؛ وأزعم أنّ السلطة هي المسؤول الأكبر عن توفير حقوق إظهار تعدّد المرجعيّات عبر تأمين وضمانة عدم الإقصاء وإزاحة الاستبداد بالرأي والمسلّمات والقطعيّات، وإعادة هؤلاء الخارجين زمانيّاً ومكانيّاً إلى حدود الزمان والمكان، والتفاوض داخل حدود الواقع ومحتملاته وممكناته.
- لسنا في الزمن الأموي أو العبّاسي ...
- الليبراليّة ليست إسلاماً، والعلمانيّة مفهوم لاحق على الدين الإسلامي، وإنْ تقاطعَ معه فيما يخصّ المبدأ العام: (الفصل بين الدين والسياسة وخلع القداسة عن الحاكم وإزاحة سلطة الكهنوت) إلاّ أنّ أساسَ المفهوم مرتبطٌ بالعلم كمرجعيّة تشريعيّة وإجرائيّة وهو مفهوم متقدّم، وليس من العقلانيّة أسلمته أو أسلمة الليبراليّة والاشتراكيّة، وإلى آخر المذاهب المدنية المعاصرة، فأفضل ما يمكن فعله ها هنا، هو الانطلاق من واقعية هذه المذاهب ومراجعها، وبدلاً من الأسلمة لإقناع العامة، فالأحرى إيضاح دلالات ومضامين هذه المفاهيم وواقعها، وأنّها ليست كفراً أو أنّها ليست ديناً آخر أو معادية للدين، وشتّان بين اتجاه يريد أسلمة هذه المذاهب فيقع في تشويه عظيم ويُلقي حيرة في خطابه وفي أذهان متلقّيه، وبين اتجاه ينظّر لواقعية هذه المفاهيم والمضامين وعدم معارضتها للدين وأتباعه.
إنّ أوّل تقارب إصلاحي بين الأفرقاء هو دعوتهم للواقع نفسه، والعودة إليه، هذا بالعودة إلى الزمن الحاضر وهذا بالعودة إلى المكان الحاضر، والتأكيد على اختلاف المرجعيّات، والذي قد يفضي إلى نتائج إيجابيّة تستغلّ التنوّع في مكوّنات الدولة باتجاه إنتاج حضاري بدلاً من صراع عقيم مهلك يُقصي فيه طرفٌ باقي الأطراف تحت منطق القوّة والأكثريّة المركّبة - المصنوعة.
التفاوض يقوم على دعامات أساسيّة: (إقرار اختلاف المرجعيّات، إقرار التنازل أو تعديل حجم الغايات، الحالة اللا - صفريّة) وهو ما أسمّيه المبادلة التنازلية.. أمّا أن يتجاوز التفاوض هذه الأسس، فإنّه عادة ما يُفضي إلى صراع وإن بدا أنّه حسم المسألة لصالح فريق دون آخر، فإنّ هذا الحسم بحدّ ذاته هو الذي يحمل بذور تطوّر الصراع وتعقيد إمكانات حلّه.
المسألة الثقافيّة السعوديّة إذاً: هي هذه التي تُخفي مرجعيّتها، تخشى عواقب ظهور مرجعيّتها، ثمّ تتورّط للاحتكام لمرجعيّة الأقوى أو الأكثريّة المركّبة، التي هي جزء من الوطن وليست كلّ الوطن، وإن كانت في السلطة.. إنّها مسألة الثقافات بدلاً من الثقافة، مسألة المرجعيّات بدلاً من المرجعيّة، الدولة بكلّ مكوّناتها بدلاً من أيّ ممثّلين اختزاليّين تحت ذريعة ثقافيّة أو دينيّة من خارج الزمان والمكان.