العَدَميَّة Nihilism: مصطلح يعود إلى المفردة اللاتينيَّة nihil، وتعني: (لا شيء). والعَدَميَّة تيّار سياسيّ تقويضيّ للبنى الاجتماعيَّة والقِيْمِيَّة القائمة. ظَهَرَ خطابه جليًّا في القرن التاسع عشر، في عهد القيصر الروسي (إسكندر الثاني)، لدى بعض المثقّفين الروس. لكنه ذو جذور، تَخْضَرّ وتتصوّح بين حِقبةٍ وأخرى، استجابةً لأزمات حضاريَّة طاحنة تمرّ بها أُمَّة من الأُمم، تؤدّي إلى خيبات أملٍ صيروريَّة. ذلك أنه تيّار رفضي هدّام، متوتّر الإديولوجيا، بتوتّر بواعثه العصبيّة، نفسيَّةً واجتماعيَّة. وقد كان لهذا الفكر تأثيره في القرن العشرين وقرننا هذا، في تيّار الحداثة وما بعدها، بالنزوع إلى العبثيّة، واللا معنى، واللا إنسانيّ، واللا لغة، واللا انتماء. وكثيرًا ما تلبّس تلك النزوعات باسم الحُريَّة، والتجديد، والخلاص من ربقة الأب، والماضي، والنَّسَق.. إلخ. أي التصدير بدعاوَى حَقِّ تُفضي إلى عَدَم! وعلى خلافٍ في المفاهيم والرؤى، يُعدّ (الفيلسوف الألماني فردريش نيتشه، 1844- 1900)، ولا سيما في كتابة (إرادة القوّة)، مؤسِّسًا رئيسًا في تيّار العَدَميّة العالميّة. إلى جانب آخرين من أعلام الفلسفة الوجوديَّة وفكرها في القرن العشرين، كـ(جان بول سارتر، 1905- 1980)، و(ألبير كامو، 1913- 1960)، وغيرهما.
ماذا عن العَدَميِّين العرب؟ الحقّ أن معظمهم عَدَميِّون بالفِطرة، لا بالفِكرة! أي أنهم قد تلقّفوا أفكار العَدَميَّة، وروّجوا لها، دون وعيٍ، وهم يعيشون العَدَميَّة الواقعيَّة، والعبثيّة meaninglessness، بالقوّة والفعل، مجتمعًا، وثقافةً، وحضارة. لأجل ذلك يأتي خطابهم تقليديًّا متهافتًا، لا أكثر من عويلٍ وصراخٍ، وعبثٍ لعبثٍ، بلا فلسفة، ولا فكر، ولا آفاق بديلة. ذلك لأن العدَمَيَّة الغربيَّة، وإنْ اتَّخذتْ هذا المصطلح الموهم، هي ذات غايات، ورؤى، وآفاق. فهي ثائرة على واقع حضاريّ للتبشير بمستقبل حضاريّ آخر. لا ثائرة على لا شيء للتبشير بلا شيء. إنه مسعى للتحوّل من قِيَم عتيقة إلى قِيَم جديدة. فالعَدَميَّة الأوربيّة، أو الغربيّة، وَفق هذا المفهوم، عَدَميَّة الواقع، لا عَدَميَّة مطلقة. إنها عَدَميَّة نقديَّة، للقضاء على العَدَميَّة الحضاريّة، لا من أجلها، ولا للدعوة إليها. يقول (نيتشه): (لقد حصل التناقض بين العالَم الذي نبجِّله والعالَم الذي نعيشه، الذي نشكِّله نحن. ولا يبقى أمامنا سوى أمرين: إمّا القضاء على تبجيلنا، وإمّا القضاء على أنفسنا بأنفسنا. وهذه الحالة الأخيرة هي العَدَميَّة.)(1) فهو، إذن، الفرار من (العَدَميَّة)، لا إليها. الفرار من (العَدَميَّة)- المتمثِّلة في القضاء على أنفسنا بأنفسنا- بالقضاء على التبجيل لقِيَمٍ فارغة، لم تعد صالحة للحياة، في مطمحٍ إلى قِيَم جديدة. غير أنه كثيرًا ما يلتبس في القراءة العربيّة وصفُ الواقع وتعريةُ الأزمات الاجتماعيَّة بالدعوة إلى ذلك الواقع، وتمليح تلك الأزمات. تمامًا كما يقرأ العربي روايةً، فإذا هو يلعن كاتبها، وينبزه بأقذع صفات السقوط الأخلاقي؛ لأنه صَوَّرَ الموبقات الاجتماعيّة. ويبدو أن وراء هذه الذهنيَّة القرائيَّة العربيَّة ثقافةً (دَعَويَّة/ وَعْظيَّة)، تبشيريّة، غير نقديَّة؛ تربِّي العقل على المباشَرة، والاختزال، وما قلّ ودلّ، وعلى الظاهريَّة، والكسل، وتطلّب الأمر الصريح أو النهي الصريح، لا المشاركة في التأمّل والتفاعل والاستنتاج، وفهم ما يُقال، ونقد ما يُقال، على بصيرة.
لنقف الآن على نموذجٍ عربيٍّ من عَدَميِّينا خلال القرن العشرين. وسنجده حافلًا بهذيانٍ عَدَميٍّ نموذجيٍّ بامتياز. هو (عبدالله القصيمي)، في كتابه (فرعون يكتب سِفر الخروج)، على سبيل الشاهد. وقد بلغ فيه المؤلِّف أقصى ما يمكن أن يبلغه عَدَميٌّ في عَدَميَّته، حيث خرج به شقاؤه العقلي إلى العمَى؛ فالعيون لا وظيفة لها لديه كي ترى، هكذا يرى بعين عقله، التي يؤمن أن لها هي (فقط) وظيفة، وأنها ترى العمى المحيط! وهو هذيانٌ مملٌّ، عجيب في أسلوب تكراره جملة واحدة وتقليبها في معظم الكتاب، يُعيد صياغتها وإنتاجها ويجترّها، في أغرب أسلوبٍ كتابيٍّ رأيته في حياتي. على أنها تكاد تبدأ كلّ جملة في الكتاب بـ(إنّ). وهذا يعني أن (الحكاية فيها إنّ)! إذ لا يكثر استعمال (إنّ) في خطاب إلّا كان وراء أكمته ما وراءها. ولا ندري عن مدى علاقة هذا التعبير المَثَلي بالآية الكريمة
{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}؟ أو ما يُحكَى عن (علي بن منقذ) مع حاكم (حلب) الباطش، (محمود بن مرداس)؟ والشام يبدو أن فيها (إنَّات) وأَنَّات من زمان! غير أن الأرجح أن أحد المتفيهقين كان يتشدَّق بخطابٍ يكثر فيه استعمال (إنّ)، حتى قال قائلهم، شاكًّا متأفِّفًا: (الحكاية فيها إنّ)! فذهب ذلك مَثَلًا، على كلّ من يحاول تأكيد غير مؤكَّد، ساعيًا لفرض (إنّاه) واقتناعاته على القارئ، كما كان يفعل القصيمي في (كتاب إنّ) المذكور.
إنّ- وها قد أصابتنا العدوى!- هذا الكتاب آية من آيات اللتّ والعجن، بلا خبز. خذ مثالًا، يقول: (إنّ الحريّة هي أن يكون الشيء حيث يكون محتومًا أن يكون، وألا يكون حيث يكون مستحيلًا أن يكون- أو هي: أن يكون الشيء كما لا بد أن يكون، وألا يكون بالأسلوب الذي به لن يكون. إنّ الحرية هي أن تتحدث عنها وأن تظنها وأن تكون كما هو محتوم أن تكون لا كما تريد أن تكون أو تدبر أن تكون...)!(2) هل فهمتم الحريّة، يا...؟!
وظاهرة بدأ الجمل بـ(إنّ) هكذا يدلّ على اعتقادٍ راسخٍ لدى القائل بما يقول؛ وجزم لا يخامره ارتياب. وهذا يناقض ما يتقمّصه من شُكوكيَّة. هو بهذا إنما يقرِّر، ويُصدر الأوامر والأحكام، وينشر البيانات (الانقلابيّة)، ولا مجال لديه لأن يتأمّل، أو يُجاول الأفكار، ويبحث، ويناقش، ويتساءل، ويشكّ؛ فالنتائج لديه قد باتت معلومة محسومة، لا يُرينا فيها إلّا ما يرى، ولا يَهدينا إلّا سبيل الرشاد. ولذا تراه ما ينفكّ يتوخَّى غرس خلاصات ما توصّل إليه، ممّا يخاله حقائق مطلقة، في ذهن المتلقّي، مستخدمًا مسمار (إنّ)! وهذا الخطاب الواثق جِدًّا- المتسلّح بـ(إنّ) دون أخواتها- يذكِّرنا بعيبٍ بلاغيٍّ أثاره قديمًا (خَلَف الأحمر) على (إنّ) (بشّار بن برد) الشِّعريَّة، حيث قال:
بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبلَ الهَجيرِ
إِنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التَّبكيرِ
فقال له خَلَف لو قلتَ، يا أبا معاذ، مكان (إنّ ذاكَ النَّجاح): (بَكِّرا فالنجاح) كان أحسن. فقال بشّار: (إنما بنيتها أعرابيَّةً وَحْشيَّةً، فقلت: (إنّ ذاكَ النَّجاح) كما يقول الأعراب البدويُّون، ولو قلتُ (بَكِّرا فالنجاح)، كان هذا من كلام المولّدين، ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة) أجل، إنها أعرابيّة، وَحْشيّة، بدويّة، تقمّصت الفكر والتمرّد؛ فكان فكرها كذلك أعرابيًّا وتمرّدها وَحْشيًّا، وخطابها بدويًّا، أقرب إلى فتكات الصعاليك، وصيحات قُطّاع الطرق، منه إلى لفتات الفكر المتسائل والذهن النقدي الموضوعي.
ويمثِّل الكتاب المشار إليه (ظاهرة صوتيّة)، لعلّها لم يسبق لها نظير. فالعَين عمياء إلّا عن تفاهات يراها المؤلِّف ويظل يحدِّق فيها. ولا يُنكِر أن لعَينه وظيفة رؤيتها، التي يقترفها الإنسان، بظُلمه لنفسه، ثم يتنصَّل عنها، مُدَّعيًا البراءة، وأنه مغدور، مظلوم، مستهدَف؛ فإذا هو لا يكفّ عن العويل، والتشكِّي من هذا الكون، الذي لم يأت وَفق هواه ومقاسات أحلامه. مردِّدًا في هذا الكتاب وفي غيره الشكوى من الذُّباب، والتبرُّم بخَلق الحشرات، وبخاصَّة الصراصير! ولا ندري، على هذا، أين كان يعيش؟! غير أنه في كلّ ذلك يجأر ممعنًا في عَدَميَّةٍ فاجعةٍ، تُثير الشفقة حقًّا. فما أعجب أن يقف العقل باسم العقل ضِدّ العقل، كما تمثَّل ذلك في ذلك الكتاب! وهو- في مفارقةٍ ساخرة- إذ يُنكر كلَّ شيء، وينفي جَدْوَى كلّ شيء، ويرفض السببيَّةَ في أيّ شيء، والحكمةَ من كلّ شيء، لا يُنكر عقلَه هو، ولا ما يمليه عليه من أسئلة، انحدرت سنين ضوئيَّة عن أسئلة كتابه الأقدم (الصراع بين الإسلام والوثنيَّة)، أو كتابه الفكري المعمّق (هذه هي الأغلال)؛ لأنه قد غَلَّ نفسه هو بعد كتابه ذاك بأغلال لا تقيِّده فقط، بل تمحقه محقًا، وتمحو قيمته الفكريَّة محوًا! وإلّا فلو كان خطابه يحكمه منطق، لكان أوَّل إجراء يتَّخذه- وفق منطقه اللا منطقي- أن يُنكر عقلَه نفسه، ويصمت إلى الأبد؛ إذ لا معنى لمؤمنٍ بالعبث المطلق، أن يظلّ يجأر بالويل والثبور والنقد لعبثيَّة الكون، ما دام يعتقد أن الأمور عبثٌ في عبث!
الإيمان بوجود العقل إيمانٌ تلقائيٌّ بوجود الله وحكمته، والكفر بأحدهما كفر بالآخَر. والكفر بوجود الله، أو السبب الأوّل، هو في الأساس كفر- بَعْدَ العقل- بالعِلْم كلّه، القائم جوهريًّا على البحث عن السبب والمسبِّب. وأين هذيان القصيمي، إذن، من فكر فيلسوف جادٍّ كـ(إيمانويل كانت Immanuel Kant، 1724- 1804)، في كتابه (العقل المحض Kritik der reinen Vernunft)؟ أو حتى من (فولتير Voltaire، 1694- 1778)، قبل ذلك، الذاهب إلى أنه: (لو لم يكن الله موجودًا، لكان من الضروريّ اختراعه)؟! ذلك لأن الكفر بالله، بمعنى الإلحاد، هو كفر بالإنسان نفسه(3).
إنه فكر غير فكريّ، ولا عِلْمي، ولا عقلانيّ أصلًا. وهو- في الغالب- غير أخلاقيّ أيضًا. أمّا حين يكون- إلى ذلك كلّه- وريث تركةٍ من الخواء، والمحاكاة، والتبعيَّة، والعُقَد النفسيَّة، والاجتماعيَّة، والحضاريَّة، فنارُه لا تورِّث حينئذٍ سوى الرماد، وعَدَميَّته لا تُعْدِم إلّا نفسَها وصاحبَها، بنفسها وصاحبها، كما حذَّر نيتشه من ذلك المصير.
** ** **
(1) (2011)، إرادة القوّة: محاولة لقلب كلّ القِيَم، ترجمة: محمّد الناجي (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق)، 11،
(2) (بيروت: مؤسّسة الانتشار العربي، 2001)، 91.
(3) التفريق هنا بين مصطلحَي (الكُفر) و(الإلحاد) أمرٌ لازم في مثل هذا المقام، فلقد ينكِر إنسان النبوّة، مثلًا، فيصحّ وصفه بالكُفر بهذا النبيّ أو ذاك، لا بالإلحاد؛ لأن الإلحاد- بمعناه الذي ينصرف إليه الذهن غالبًا- هو نكران وجود الله، أو نفي صحَّة الإيمان بإله: Atheism. ومن الغريب أن يقع في مثل هذا الخلط (عبدالرحمن بدوي) في كتابه (من تاريخ الإلحاد في الإسلام)، فسلك فيه أسماء شَتَّى، من (ابن الراوندي)- الذي تقلَّب بين الاعتزال، فالتشيُّع، فالطعن في الأديان، في مراهقة فِكريَّة ومتاجرة طائفيّة، وقد توفي في شبابه، نحو 298هـ= 910م- إلى أسماء أخرى مؤمنة بالله، غير أنها تمجِّد العقل، أو تقول إن الله يُعرف بالعقل- كما هو تعبير الناس الدارج- أو حتى تناقش أمر النبوّة، كـ(أبي بكر محمَّد بن زكريّا الرازي، -313هـ= 925م)، وغيره. على أن كتاب الرازي (الطب الروحاني)، ينفي عنه إنكار النبوَّة. ولا ننس أن تلك التُّهَم كثيرًا ما كانت تُسكّ بين المتعاصرين لخصومات بينهم، أو تُصطنع لخلافات سياسيَّة، فيتلقّفها المتأخِّرون، بلا تثبُّت ولا تدليل مقنع. وهذا ما وقع بين الرازيَّين، أبي بكر وأبي حاتم. (انظر: مقدّمة التحقيق لكتاب الرازي، بقلم المحقِّق عبداللطيف العيد، (1978)، الطب الروحاني [و(الأقوال الذهبيَّة) للكرماني ومعها (المناظرات) لأبي حاتم الرازي]، (القاهرة: مكتبة النهضة المصريَّة). والقرآن لا يتحدّث عن ملحدين (بذلك المعنى العقدي)، ولكن عن مشركين وكافرين، مشيرًا إلى أنهم جميعًا مؤمنون بوجود الله. حتى الدهريُّون، الذين قالوا:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (24) سورة الجاثية، من غير الثابت نفيُهم وجود الله بالكليّة. و(فرعون- موسى) حينما قال: {يا أَيُّهَا المَلأُ، ما عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فأَوْقِدْ لِي يا هَامَانُ على الطِّينِ، فاجْعَلْ لي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى، وإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ}، [القصص: 38]، لم ينف الأمر بالكليّة، بل أَخبرَ عن جهله، وظنِّه، وشكِّه، وتطلُّعه للبحث، والتأكّد من احتماليَّة صدق موسى. وحين يقول: (ما عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، فإن معنى (الإله) هاهنا- ولدى قدماء المصريِّين في نعت عظمائهم- ليس بـ(موجِد الكون)، وما كانوا بمجانين ليتصوّروا مثل هذا. وبدليل أنهم قد قدّسوا الشمس، واتّخذوا آلهة أخرى متعدّدة. وكأنما ظاهرة الإلحاد المطلق لم تكن قائمة في تلك العصور، وإنما جاءت نتيجةَ اغترار الإنسان بعُلومه وفلسفاته في العصور المتأخِّرة، مع عوامل اجتماعيّة وحضاريّة أخرى.
***
تنويه: سقطت هوامش الحلقة السابقة من (مساقات) لأسباب فنية، ما أوجب الاعتذار.