Saturday 17/05/2014 Issue 438 السبت 18 ,رجب 1435 العدد
17/05/2014

(مَنهجيَّاتٌ) في (التحليل البلاغي)(2)

أما الأساس المنهجي الرابع فقد كان ينطلق من (نقد ثالوث البلاغة ونبذه)، أي عدم الاعتراف بتقسيم البلاغة الذي اتفق عليه المـتأخرون منذ القرن السابع الهجري، حين قسموا البلاغة إلى ثلاثة علوم: المعاني والبيان والبديع، وعلل الباحث ذلك بأنَّ هذا التقسيم تاريخي وليس معرفيا، حيث لم يرد عند علماء البلاغة الأوائل الكبار أمثال (عبدالقاهر الجرجاني) وغيره، أو عند العلماء المهتمين بالتفسير البلاغي كـ(الزمخشري)وغيره، كاشفا عن أنَّ هذا التقسيم ظهر مع الافتتان بظواهر التفريع والتكثير، مع ما عانت منه البلاغة بسببه من إشكالات معرفية ومنهجية، من أبرزها حالات التصنيف والإلحاق والتمثيل، فما يعده هذا البلاغي ضمن (البيان) يدخله آخر ضمن (البديع)وهلم جرا.

ومن ينظر في التاريخ المصطلحي للبلاغة وفنونها سيجد أن العلاقة بين (البلاغة)و(البديع) ترادفية في أول الأمر، وهي علاقة -كما يراها العروي- نبتت في حقل البحث البلاغي نبتة متأصلة وقوية؛ معللا أنَّ المعطيات الجزئية لذلك الحقل الممتد تشهد بأنها تتقاطع في كونها عناصر تمد الخطاب بمكونات فنية وجمالية ترفع مستواه إلى درجة الحسن، فالإعجاز، إذا كان خطابا قرآنيا، وهي عناصر تتحد في قوتها الإمدادية وقدراتها الجمالية، وليس بينهما تراتبية في الأفضلية ذهنيا أو وجوديا، فالدور الذي يمكن أن يقوم به التشبيه أو الاستعارة هو نفسه الذي يتحمل مسؤولية إنجازه كلٌّ من الفصل والوصل أو التقديم والتأخير أو غيرها من أساليب البيان وفنون القول.

وبناء على هذا يمكن القول إنَّ الاقتضاء الأدبي هو الذي يكسب الفنون البلاغية ميزتها وليس العكس؛ لأنَّ الأمر لا يتصل بسوق الفنِّ إلى النص، بل بسياق التوظيف والاستثمار، حيث لا يمكن أن يُعوَّل على هذه الفنون النظرية وحدها في اكتناه أسرار الخطاب الأدبي، فما علوم البلاغة كلها إلا بعض الوسائل في التنبيه إليه كما يقول الرافعي.

وينبه العروي وفق هذه المنهجية أنَّ أكثر الفنون المتضررة من تقسيم البلاغة إلى هذا الثالوث هو فن (البديع)، وهو الذي كان في وقت ما مرادفاً للبلاغة، وفي تاريخها ما يؤكد قوة هذه النظرة الترادفية، فهذا (الجاحظ) يورد نماذج من الاستعارة والمجاز في سياق حديثه عن (البديع)، وهذا (ابن المعتز) يسمي كتابه: (البديع) ويجعله مشتملا على سائر فنون البلاغة، وذاك (ابن أبي الإصبع المصري) يجعل (البديع) مرادفا للبلاغة في أكثر من مناسبة مع أنه ينتمي إلى الاتجاه (التقعيدي) المدرسي، والأهم من هذا وذاك أنَّ إمام البلاغة العربية (عبدالقاهر الجرجاني) كان متحرراً من أي نزعة نحو هذا التصنيف الثلاثي.

إنَّ اعتبار هذه النظرة الترادفية والابتعاد عن هذا الثالوث يسهم في استثمار سليم للآليات البلاغية في تحليل الخطاب الأدبي؛ لأنَّ ذلك يخلص الباحث من مشكلات وقضايا واعتراضات ليس لها أثر سوى إعادة إنتاج الخلافات القديمة؛ لأنَّ المهم في التحليل البلاغي هو ما أفاده الفنُّ في إدراك المتلقي لأسرار الخطاب، أما ما سوى ذلك فلا يفيد سوى ضياعٍ للوقت وللجهد لا يعود على الباحث ولا على المتلقي ولا على النص بأدنى فائدة.

ويعد العروي (إرجاع الدرس البلاغي إلى أصله الوسائلي) أساسا منهجيا مهماً لاستثمار البلاغة في تحليل الخطاب، والمقصود بهذا الأساس النظر إلى البلاغة بوصفها وسيلة وذريعة إلى اكتناه أسرار البيان وتذوق جمالياته، ومن ينظر إلى بعض الكتب البلاغية وطريقة تناولها لها يلحظ أنها جعلتها غاية تدرس، وانسحب ذلك على المقررات الدراسية في التعليم الثانوي والجامعي، مما جعلهم يستجلبون شواهد شعرية ويصنعون أمثلة نثرية للتدليل على وجود بعض فنونها وأصنافها مهما كانت تلك الشواهد خاضعة لمنطق الصناعة والتكلف.

وقد أدَّى ذلك إلى الاعتماد على خطة التقعيد، واتخاذ الخطاب القرآني والأدبي مجرد شواهد، مما أسهم في وجود خلاف بلاغي كبير بين العلماء، إضافة إلى أنَّ الاهتمام الزائد بالقواعد على هذا النحو يتسبب في ضمور حاسة الذوق؛ لأنَّ البلاغي يكون حينها منهمكاً في إحكام القاعدة، فتبقى النصوص غائبة، ولا يتمكن القارئ من تذوقها واستشعار جمالياها، واعتماد هذا الأساس المنهجي يعني أنه مطلوب من مدرس البلاغة أن يكشف عن بنية النص بالكامل، ويبرز دور مختلف المكونات في خدمة تلك البنية، ويحلل عناصر الفن ويربطها بالمستوى الدلالي للخطاب، ثم بعد ذلك يمكنه أن يضع له اسماً ورسماً وتعريفاً في البلاغة العربية.

وسادس هذه الآليات المنهجية يؤكد على (الانفتاح على معطيات الدرس الأسلوبي والمناهج الحديثة)، ويعد العروي ذلك داخلاً في باب المصالح المرسلة القاصدة إلى تحقيق التمكين للبلاغة العربية وتطويرها، فعلماء البلاغة محتاجون إلى مواجهة مستجدات البيان وحداثة الإبداع بأدوات مسعفة، غير أنَّ الباحث ينبه إلى شرطين لا بد من تحققهما لاستثمار هذا الانفتاح، الأول: ألا تؤدي هذه المناهج والآليات الحديثة إلى إلغاء أصول البلاغة، الثاني: أن يكون النصُّ مقتضياً لهذا الاستدعاء ومستوجباً لذلك الانفتاح، ولا يكون ذلك من باب التشهي (الشكلاني) (التجريبي) الذي نرى أثره في العديد من الدراسات التحليلية التي حوَّلت النقد إلى (لعب) بالرسوم والأشكال والمصطلحات والبيانات والجداول، ناهيك عن عجمة طاغية في الأسلوب والاستدلال.

- الرياض omar1401@gmail.com