تحادثنا بشأن التطورات المتسارعة في الحقبة البشرية المعاصرة، وما يمكن أن ينشأ عنها من تحولات بيولوجية أو جينية تؤثر في مصير الإنسان، ووضعه في هذا الكون، بل وربما وضع الأرض التي يسكن عليها أيضاً. ومما طرحنا من سيناريوهات أن أجيال البشر اللاحقة ربما تكون ضعيفة البنية، ومتسمة بالكسل والخمول، لأنها تعودت على أن تسخّر الآلة لخدمة الإنسان في كل ما يحتاج إلى مجهودت، فيؤدي ذلك إلى ضعف عضلاته، وتعوده على عدم إنجاز الأشياء بنفسه.
في تلك الأثناء تذكرت مراحل تطور البشرية في حضاراتها المختلفة، وتتابع إنجازاتها العلمية بطريقة غيّرت موقع الإنسان من بقية سكان المعمورة من الكائنات الأخرى، كما غيّرت نظرته إلى عناصر الكون المختلفة، وإلى نفسه أيضاً وعلاقته بالأرض، وعلاقة الأرض ببقية تلك العناصر. فكان البدء في تاريخ البشرية المدون من علوم اليونان التي تمثلت فيها التأملات الأولى لنظام الوجود من حول الإنسان؛ حيث رسخت نظرية بطليموس فكرة العلوم القديمة المتعلقة بكون الأرض هي مركز الكون، والإنسان هو مركز الحياة على هذه الأرض. ويتبع ذلك الاقتناع، الذي ثبتت أركانه المؤسسات الدينية التي تبنته بقوة، وخاصة الكنيسة الكاثوليكية، التي قاومت كل محاولة لتغيير تلك المسلّمات أو تعديلها، بوصفها إزاحة لموقع الكنيسة والنصوص الدينية عن الهيمنة على مسيرة حياة البشر العلمية، ونكوصاً عن القبول بتصوراتها للحقيقة المطلقة.
وعندما طرح جيوردانو برونو نظرته المختلفة إلى الكون في نهاية القرن السادس عشر الميلادي، ثارت عليه تلك القوى التقليدية بقيادة سلطة الكهنوت المسيحي في روما، مما أدى إلى حرقه حياً مشدوداً إلى عمود حديدي في الساحة العمومية، ليراه الناس جميعاً؛ فيعرضون عن تبني آرائه بكون الكواكب المختلفة هي التي تدور حول الشمس، وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض كما كان بطليموس يدّعي، وتبعته النصوص الدينية القديمة. وللمفارقة، فإن الساحة التي أعدم فيها يقابلها الآن متحف يشيد بالتحول الكبير الذي أحدثه برونو في تاريخ العلم البشري. وقد أكد ذلك الإقرار بصحة نظرية كوبرنيكوس، وكونها غير قابلة للدحض من واقع المعطيات العلمية التي تحكم العلاقات الفلكية؛ فكان مصيره السجن، ومنع كتبه من الطباعة، من أجل تأخير موت سلطة الكنيسة، ولو إلى حين.
أما بعد أن ابتكر جاليليو جاليلي منظاره المشهور (التلسكوب المقرب)، فقد أكد أن جميع الأقمار (أقمار المشتري والأرض) تدور حول كواكبها، وأن الكواكب جميعها تدور حول الشمس. ثم سعى علماء الفلك لصناعة التلسكوبات، ومحاولات رسم خرائط مفصلة جديدة لموقع الإنسان وكوكب الأرض من الكون. فبعد أن كانت الأرض هي المركز، أصبحت واحداً من كواكب هذه المجموعة الشمسية، مما يعني تحدياً للسلطة المعرفية للكنيسة، وإدراك الإنسان الفلسفي للكون (كما يقول إيجلمان).
وقد استنكر خصومه التقليديون هذه النظرية، وعدوها خلعاً للإنسان عن العرش؛ فاقتيد جاليلي عام 1633م للمثول أمام محكمة التفتيش الكنسية الكاثوليكية، وأرغموه على التوقيع على تراجع عن نظريته التي تنفي مركزية الأرض. لماذا تعد الكنيسة ذلك خطراً عليها؟ هم في الواقع يخافون من التحول الجذري لرؤية العالم، الذي تمثله هذه النظريات العلمية المدججة بالبراهين الملموسة، مما يفقدهم المصداقية في كل مزاعمهم الأخرى. لكن العلم انتصر على الكنيسة، ففي السنة التي توفي فيها جاليليو جاليلي (1642م)، كان قد ولد إسحاق نيوتن، وأكمل عمل برونو وجاليلي بوصفه للمعادلات التي تحكم الكواكب التي تدور حول الشمس؛ وبذلك يكون أصحاب الحجج القمعية ضعفاء أمام سلطة العلم، التي تجبر الناس على الاقتناع بها، حتى ولو كان جبروت الاستبداد طاغياً.