هل الاعتقاد روح الحقيقة كما يقول الراديكاليون؟.. أم أنه عثرة في طريق المعرفة واكتمال الحقيقة كما يقول العلمانيون؟.
وفي كلتا الحالتين يظل الاعتقاد وما يقابله من اعتقاد مضاد أو من حراسة مُقيِِدة أو عسكرة قائدة له مثاراً للفتنة ولفلسفة متلاطمة بجدلية ظاهرها رحمة وباطنها عذاب.
كما أن ليس بوسع أي متأمل لتأثير الاعتقاد كمحرك ليقينيات الفرد والجماعة وكمؤسِس لخدماتهم المعرفية وكمُوصِف لحيثيات خطابهم وصادراته إلا أن يتعامل بجدية معهما، ما يؤمن به الحزب الراديكالي وما يؤمن به الحزب العلماني، لأنهما مصدرا تحليل لقيمة اليقين المعرفي المتصارع عليه كإمكانية لصلاحية نهضوية ثابتة كما أنهما مصدرا تحليل» لثقافة أزمة الترقي المعرفي» من خلال الإمكانية ذاتها ولكن باعتبار حواجز التفريق النهضوي، إضافة إلى أن الاعتقاد في ذاته سلطة لها دوافعها التطرفية والتعنيفية وطموحاتها التوسيعية.
لكل منا اعتقاده وليس لكل منا ما يعتقده، والفرق ها هنا أننا نتوارث الاعتقاد لا ننتجه، وتصديره من خلال خطاب ليس معادلاً للكفاية الإنتاجية، ولذلك نظن عبر حرية الكيفية أننا نملك الحق في إصدار مانعتقده، في حين أن ذلك الحق لا يستطيع التحرك إلا في حرية الكيفية.
الاعتقاد مصدر لبناء المفاهيم ولذلك فهو بنية تقديرية تعتمد على كمال الصحة وكمال الثواب وكمال الفائدة، وهو ما يُوثق حتمية يقين محتواه وصفة تقديسه.
وبذلك فكل ما نعتقده هو حاصل معرفتنا بصحة يقين مضمونه وقدسيته وكل ما نعتقده هو حاصل معرفتنا بيقين ثوابه وقدسيته، أي القيمة العليا لتثبيت الأهمية، وكل ما نعتقده هو حاصل معرفتنا بيقين فائدة تأثيره وقدسيتهما.
وتتوثق الصحة من خلال أربعة مصادر هي الدين والتاريخ والعرف والعلم، فكمال الصحة من عدمها تُقاس وفق معايير كل مصدر من المصادر السابقة.
وبذلك فمسطرة القاعدة ها هنا هي ما نعتقده مبنياً على «الصحيح»، وما نعتقده مبنياً على «ثبات أهمية» وما نعتقده مبنياً على «تحقيق فائدة».
فالاعتقاد وفق تلك المسطرة هو «اليقين لمعلوم مباشر أو غير مباشر» لتحصيل نفعي مُوصِف بالقدسية، والنفعية هنا هي التي تربي العسكرة داخل الاعتقاد.
وكمال الصحة هي المُنتِجة «للإيمان»، فنحن نؤمن بكل مضمون صادر عن اعتقاد فاعل وجماهيري، وتوثيق تراتبية مؤكدة ما بين الاعتقاد والإيمان لا يُمكن أن يخضع للقول الفصل لأن هناك الاعتقاد بالتوارث والاعتقاد المُعسكر مما يدخل الإيمان ها هنا في باب «رياء الإكراه ورياء الاضطرار ورياء المغلوب ورياء التعايش».
والاعتقاد بالتوارث ليس قاصراً على العنعنة الدينية والعرقية والتاريخية والطائفية والعُرفية، إنما يُضاف إلى سلسلة التوارث الإجرائي لمضمون صفة الاعتقاد العلم والمعرفة، مما يعني أن «الفردية «لا تصنع اعتقاداً وإن كانت تملك حرية صناعة كيفية خطاب الاعتقاد، وهذه ليست قاعدة تساندية إنما هي قبل ذلك طبيعة الاعتقاد.
صحيح أن ممثلات الاعتقاد من أفكار وإجراءات ومبادئ وقوانين تختلف باختلاف مصادره، إلا أن جمعيها لا يخلو من نزعة معسكّرة للسيطرة على بقية الاعتقادات واستعمارها، لأن ثمة قاعدة تحمل نزعة قدسية مفادها أن «اليقين إله لا شريك له».
والاعتقاد ليس أسرة أفكار فقط، وليس كما نتوهم أن الأفكار القوية قادرة بمفردها على صناعة اعتقاد جازم بضرورة صناعة يقين أو هدم آخر، كما أن الأفكار القوية ليست هي الوصف الكافي لتمثيل مفهوم الاعتقاد وقيمته.
فثمة مكونات لا بد أن تندمج مع الأفكار القوية لتصنع اعتقاداً أهمها «الجماهيرية»، أي انجذاب نسبة تتجاوز الحدّ الأقلي بالأصل أو التبعية من خلال تحقق شروط الرضا والقبول والتوافق والتفاعل لنشر الأفكار القوية، ويُمكن مُعادلة تلك الشروط في حالة غيابها «بتعويض القوة»، أي أن الإحصاء لمكونات الانجذاب ليس دوماً مؤشراً لرسمية فعل أو حاصله، ولذا فأي تعويض معادل لتأثير تلك الشروط يدخل في نطاق رسمية الفعل وحاصله متجاوزاً سلبية التعويض وضرره لمصلحة الغاية التي لا تخضع وسائلها لشرعية الأمن الاستحقاقي، لأن الأقصى أنفع من الأدنى باعتبار جازم الأولوية الذي يلغي سلطة الأشياء في ذاتها إلا تلك الداعمة لجازم الأولوية.
ويهدف ذلك التعويض من خلال الإزاحة إلى تبديل «الاعتقاد الحاصل بالجماهيرية» «بالاعتقاد المُساند لأقليّة السلطة أو التغيير أو التنهيض أو التعديل» ،أي ثمة دوماً غاية كبرى لتقديس عسكرة الاعتقاد.
وقد يرى البعض أن قيمة الغاية لفرض اعتقاد لسيادته تشفع حيناً لعسكرة التعويض أو لقسوة ذلك التعويض في تحريف الاعتقاد المضاد أو مصادرته أو الضغط عليه للاختفاء أو الإقصاء.
كما أن تلك الغاية ما تلبث أن تشرّعن عسكرة فرض اعتقادها من خلال مستويات تبريرية تارة باسم المقدس وتارة باسم الاستحقاق وتارة باسم النهضة وما يزيد تعقيد تلك المستويات قربها الغامض من مقتضى ميل الطبيعة القائم على الانضمام لائتلاف جمعي مبني على اعتقاد جامع للتنوع مما يدخل الاعتقاد نطاق التوصيف الفطري وهذه أزمة في ذاتها، لأنها تستغل المشابه والاقتضاء لإيجاد القطع بالحذف وتعادل بين «قيمة الجمع» و»ابتزاز الأحادية».
لا شك أن الطبيعة الإنسانية تميل من خلال الانجذاب الاعتقادي إلى الصيغة الجمعية أو الائتلاف الجمعي أو السير تحت مظلة اعتقاد جامع تنموي وبذلك «فكل ميل موافِق لكل اعتقاد» لأسباب عدة منها، التشابه والاحتماء والتكثير أو اكتساب قوة وسلطة بالتجاور أو الاستفادة من الإضافة والنهضوية وتلك أسباب قد تستغلها العسكرة المّمولِة لاعتقاد خاص لتفعيل أحادية بحجة مقتضى الميل.
وعندما أقول إن «كل ميل موافِق لكل اعتقاد»، فالتوافق هنا يسعى إلى الانضمام لاعتقاد جامع تنموي لتوسيع الخبرة وتصاعد تراكمية التجربة ومرونة التداولية النهضوية، لا كما يفهم التفكير المُعسّكر بأن المرء وفق مقتضى ميله يسهل انتزاعه من اعتقاده الخاص وزراعته داخل حقل اعتقاد آخر مراهناً على قوة الاستجابة لحاجة الشريحة المضافة لاكتساب الصبغة الجمعية ورسميّة الائتلاف.
وحتى تحقق الشريحة المُضافة انسجامها مع تلك الصيغة والائتلاف الجمعي وتثبت جديتها لا بد - والبديّة هنا اشتراط تفرضه العسكرة وليست شرطاً اقتضائياً بفعل الميّلية -.
من تنازل الشريحة المُضافة عن اعتقادها الخاص، والتنازل هنا بالحذف والقطع، والبدّيّة هنا تكشف لنا صفقة مساومة على كرامة التعايش المشترك مقابل تفريغ الشريحة المُضافة من خصوصيتها الاعتقادية عبر التوحد الإلزامي مع مضمونات الاعتقاد السائد.
إن التأكيد على توحّد الشريحة المُضافة مع الجماعة الأصلية في اعتقادها عبر تنازل إجباري للاعتقاد الخاص بأصل الجماعة لأن تلك الأحادية وفق منطق عسكرة الاعتقاد هي برهان على وحدة الانتماء للجمعي ومسوغ لرفع صفة الأجنبي والغريب والشاذ والمخالف والمختلف للفردية المنجذبة للائتلاف الجمعي، وكأن لا إضافة دون إلغاء.!
وفي هذا التوجه مخالفة لوظيفة الاعتقاد السائد وخدماته التي يجب أن تقتصر على «تنمية ثقافة التوطين» وعلى «أدبيات المواطَنة» و»تبني عقود التفاهم المشترك للتنوع الاعتقادي في المجتمع الواحد».
وبذلك لا يمكن لفردية «الاعتقاد الأقليّ» أن تنتمي إلى ائتلاف جمعي إلا إذا كان بمقدورها مشاركة ذلك الائتلاف في كلية اعتقاده وتطبيقه من خلال كراسة الخدمات التي يقدمها للشرائح المُضافة ليحقق «الانجذاب الاعتقادي». و»الانجذاب الاعتقادي « أو «الجذب الاعتقادي» لا يخلوان من شيء من احتيال ومخادعة تجد من خلالهما عسكرة الاعتقاد منافذ شتى للاحتيال والخداع سواء بتبعية الرضا أو تبعية الاضطرار والإكراه أو تبعية المغلوب.
وكلما استطاع الاعتقاد السائد أو اعتقاد الأغلبية من تجويد خدماته للشريحة المضافة تحت عقد «جامع المتنوع» ارتفعت نسبة «الانجذاب الاعتقادي» الظاهر والباطن، وكلما تعامل مع الشريحة المضافة بإستراتيجية العسكرة من قمع لأصول الاعتقاد الخاص وحذف لشرائعه وقطع لأعرافه كسب الانجذاب الظاهر وربى له تحت الظاهر شيطان الفتنة.
والانجذاب الاعتقادي السلمي وفق حكم معرفة الطبيعة ليس حيلة اضطرارية، إنما معين لوصف يكفي لتحقيق تمام التكوين والاكتمال لمشاركة مع اعتقاد آخر يحقق له إيجابية التعايش لا اعتقاد بديل يلغي تاريخه.
وكلما استوردت الشريحة المُضافة عبر الانجذاب السلمي الاعتقاد الكافي لحمايتها أو فاعلية تشاركها بشرط الرضا تقلصت صفة الإكراه لصفقة عسكرة الاستيراد وفرض المعونة الاعتقادية المُعسكّرة، وكلما أجبرت الشريحة المضافة على استيراد كفاية اعتقاد دون توفر حق الرضا توسعت صفة الإكراه لصفقة استيراد عسكرة الاعتقاد.
وهذا هو الفرق بين الانجذاب الاعتقادي وأصل الاعتقاد، فالانجذاب الاعتقادي «خاصية تكيّف» مرتبطة بغاية وظيفية، وبذلك فهو ليس بمصدر إيمان أو جهاد أو عسكّرة، وبعده عن التطرف والعنف يجعله أكثر تعقلاً وعقلانية من الاعتقاد مما يعني أن متحركه أكثر من ثابته، لارتباطه بقواعد المنطق والنفعية.
في حين أن الاعتقاد هو «حامل بالضرورة نزعة عسكرية»، لأنه مؤسَس على «يقين بقدسيته» وذلك اليقين المقدس هو مُنشئ «للتطرف» كما أنه مُلِزم لأصحابه «بواجب التبشير والشيوع» وهذا الإلزام كما يقتضي العسكرة يدفع إلى ممارسة العنف والإرهاب، فكل اعتقاد مُعسّكر «يزعم أنه يحمل رسالة مقدسة وأنه صوت الرب في الأرض».
وحسبما أعتقد أن تعدد التوصيفات وفق نوعية الغاية لا تنحصر أهميتها في البحث عن مسوغ لتفريع حواجز تفريق بقدر ما هي مؤشر على دكتاتورية اعتقاد مقابل إلغاء اعتقاد والبحث في أزمة الاحتباس الاعتقادي للآخر مقابل فاشية عسكرة اعتقاد يدّعي قدسية اليقين.