تتباين الآراء والمفاهيم ثم تتداخل بعضها البعض بحيث تؤدي إلى طرق متشعبة ومتعددة فثنائية المقدس والمدنس ظاهرها عرفٌ إنساني بالطهارة والرجاسة وباطنها فلسفة حجاجية بمفهوم ديني وثقافي واجتماعي تتبنّاه كل أمة بمفهوم خاص يختلف عن الآخر تكون نقطة الالتقاء فيه الدنيوي والسماوي! لذلك لا يدرك المرء ماهية الأشياء العليا الميتافيزقيا أو ما يُسمى بما وراء الطبيعة حتى يكون ارتداده منها حسّاسّاً يأخذه منها ما قرب إليه وما بعد منه فيكون مقبلاً ومدبراً معاً على حسب طبيعة المقدس والذي يعتقد أنه من عالم الملكوت إن لم يكن بعضه تدرج إلى طبيعة سلوكية فهو منها بدرجة متناقضة من الخوف والشجاعة إثباتاً ونفياً علماً أو جهلاً!
عندما كتب روجيه كايو كتابه (الإنسان والمقدس 1939) كان قد حشا كتابه بكل ما يعتقده الإنسان مقدس بطريقة فلسفية معقدة سواء كان سلوكياً أو معنوياً وأن المقدس سماوي أخروي بينما المدنّس وهو خلافه دنيوي قد يجلب الرجاسة والنجاسة والشوؤم الذي يودي بصاحبه إلى الهلاك وأن المقدس هو عبارة عن طقوس تراكمية مختزلة يرثها الأبناء عن الآباء وقد تكون سمة للمجتمعات كالأعياد والزواج وما هو مقدّس عند قوم أو مجتمع أو أمة قد يختلف عند الآخرين كالمرأة النفساء تمكث بعيداً عن الجماعة وقايةً لهم من عدوى رجاستها بينما الهيريرو وهم شعوب إفريقية يجلبون الحليب كل صباح من كل أبقار القرية لها لأنهم يرون في ملامسة شفتيها قدسية! وقد لا يؤمن بها الآخر أيضاً بينما تعد من الواجبات المقدّسة وهم يدينون بدين واحد كالأوراق المستترة (الأبوكيرفيا) يؤمن بقدسيتها الكاثوليك بينما هي لا تمثل شيئاً بالنسبة للبروتستانت! وفي الإسلام كذلك ما لم يكن من القرآن والسنّة فكل على شاكلته! وبحسب الإرث الديني والاجتماعي يكون كذلك! والمرء بطبعه يحنّ للمقدس كلما اضطرته الحاجة من خوف ولذلك هو يحافظ عليه دائماً ويحيطه بهالة من الحراسة الشديدة والحذر من الإهمال لأنه انقسام بين الخير والشر وتمييز بين الكاهن والساحر والحب والكراهية! كما يقول كايو! ولكنه أغفل مسألة التكفير بحيث أن المقدس هي علاقة روحانية عقدية لا تقبل القسمة على اثنين فإما مؤمن بها أو كافر خارج من الملة! هذا في المقدس الديني! الذي تتنازعه كل الملل! ولو نظرنا إلى صعاليك الجاهلية كنموذج فإنما هُدرت دماؤهم لأنهم خالفوا قوانين ونظام القبيلة التي تُعتبر مقدّسة عندهم فكان جزاؤهم الموت تطهيراً لهم من إثم مخالفة المقدّس! فهي سلاح ذو حدين! كما إنه أيضاً لم يتطرق للخرافة ودورها المهم في المقدّس ولا شك أن الإنسان عاش في فترات كثيرة وعصور زمنية يؤمن بقدسية الخرافة وأنها جالبة للخير أو الشر! كأسطورة وراثية يتناقلونها عبر الأجيال وقد استفاد كايو كثيراً من دور كايم الذي سبقه في كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدينية 1912) والذي تناول دراسة المقدس من باب ديني رئيس واجتماعي ثانوي وهو يرى أن المقدس عبارة عن خلاصة معتقدات وسلوكيات مجتمع تظهر على شكل طقوس نسقية يحترمها الإنسان ويقدسها بحيث تكون معينة له في جلب الخير وطاردة للشر ومبعث أخروي إلى جنة النعيم وأن المقدس يتطور عند المجتمع الدينيالحديث تطوراً لا فتاً من حيث تغير المقدس يصاحبه تغير في السلوك المتجه نحوه وساكناً عند البدائي وهذا طبيعي بتحكم مؤشر الثقافة ومستوى القياس عند المرء والرجل البدائي حتى وقتنا الحاضر يستسلم كلية لما يُملى عليه ولا يحيد عنه قيد أنملة! ولعلّ أقوام الطواطم خير مثال على ذلك.
فالمقدس عند كليهما هو مجموعة أشياء يحسبها الإنسان مقدسة إذا أصبحت إلزامية ومثالية ومكوّن إيديولوجي في حياته يطغي على كل مكوّن آخر! أو تكون فُرضت عليه فلا له فيها ناقة ولا جمل فيسّلم ويستسلم لذلك طوعاً أو كرهاً ويكون بعضها فوق ما يتصوره العقل البشري أو طقوس درج عليها مما وجد عليه آباءه لأنها عنصر أساسي في الحبكات فتدخل في باب المعجزات! أو كما سماها بارسونز (الخارق للطبيعة)! وهي نسبية ومتدرجة وكلمة مقدس في المعجمات متداخلة بمعاني مختلفة ولعلّ أقربها: شيء مبارك يبعث في النفس احتراماً وهيبةً ولذلك أصبح كل أمر رتيب تعود عليه المرء في نظره مقدس لأنه خاضع للاحترام حتى غدت القوة والغلبة شرعية مقدسة كما يقول أبو القاسم الشابّي.