يحكم النقد الثقافي القبحي على شعر الشاعر العربي وعلى الشعر العربي إجمالاً بالفحولة وليس في هذا إشكال، إذ إنّ الثقافة العربية القديمة نشأت على هذا التفحل فانزاحت هذه الثقافة على الشعر (ديوان العرب)، فأضحت جليّةً ساهم في كشفها النقد الثقافي ببراعة. لكن ما لم يكشفه النقد الثقافي هو الناقد الفحل أو النقد المستفحل المختبئ ضمن نسقه الثقافي النقدي حتى إن جمال أو دهشة استظهار النقد الثقافي لأنساق التراث العربي، أعمى عن فحولة الناقد الثقافي الذي يحكم على الشاعر الفحل بفحولة، ويتهم الشعر بالاستفحال باستفحالٍ نقدي، ويدل على استفحال الناقد الثقافي أمران:
خطابه/نقده النسقي الذي يختبئ تحت فحولته حال النقد، فينقد الفحولة بفحولة، ويجعل النقد الثقافي ستارًا لفحولته النسقية التي تظهرها جمله الثقافية حال نقده، ولعل الدكتور عبدالله الغذامي مثال لهذه الفحولة النقدية النسقية في خطابه النقدي حال اشتغاله على الشاعر الفحل والشعر الفحولي، ففي كتابه النقد الثقافي تظهر لنا الفحولة النقدية للناقد الفحل الذي يقيم المحاكمة للشاعر بكل عنفوان الفحل الناقد الذي لا ترى في خطابه سوى أنساقٍ مستفحلة يطلقها دون أدنى موازنة وهدوء تحيل إلى عقلانية الناقد لا تطرف العقلانية، وفي تشبيهه لعلوم الشعر المنعزلة الثانوية بالخادم مع سيده ؛ نسق ثقافي فحولي على العبد إذ جعله في منزلة دنيا وضيعة ثانوية مقارنة بالسيد.
1- وينزاح هذا النسق الفحولي عندما يكيل على الشاعر كل صفات الفحولة دون عودة لتنظيراته بعيدًا عن إبداعه الشعري فيكون وصف الفحولة على الشعر لا الشاعر، ويكون النسق الثقافي في الشعر لا في أخلاق الشاعر، فهل الأولى أن نقول بأنّ الناقد الثقافي يحمل نسقًا ثقافيًا في نقده أم أن الناقد الثقافي مستفحل في ذاته وأخلاقه؟! الجواب عن هذا هو ما نطبقه على الشاعر، لأننا هنا إزاء شاعر وشعر، نص ومبدع وفي الدراسة الثقافية النقدية لهما نحاول أن نوافق ونوازن بين النص والمبدع والواقع الثقافي ونتعامل مع كل منها بمنظور تحليلي مستقل، وإلا وقعنا في إشكالات ثقافية وفكرية تخالف ما يطمح إليه النقد الثقافي، وهي الدمج التام بين الفكرة وقائلها في النص غير الأدبي وفي النص الأدبي أكبر إشكالاً.
فما الذي يقوله الناقد عن نزار قباني (الفحل) في رأي الناقد الثقافي عندما يقرأ له من شعره في ديوانه (يوميات امرأة لا مبالية ) ماهو ضد النسقية الفحولية تمامًا كما في أبياته :
ثُوري !. أحبّكِ أن تثُوري ..
ثُوري على شرق السبايا. والتكايا.. والبخُورِ
وأما إماتة النقد الأدبي وإحياء النقد الثقافي بديلاً عنه فهي فحولة يمارسها الناقد على النقد، فالنقد الأدبي لم يمت من تلقاء ذاته بل أجرم الناقد في حقه بإهدار دمه وإحالته إلى عالم الأموات.
فكيف يُميتُ الناقدُ الثقافي النقدَ الأدبي ويحيي النقد الثقافي وهو حي باعتراف الناقد حينما استشهد بالجاحظ وأبي حيان التوحيدي كأدلة على وجود النقد الثقافي تاريخيًا لكنه كان معزولًا أو مختبئاً؟!
و كيف يجني على حيًّ لم يزل يتنفس في الجامعات والمؤسسات الثقافية والأدبية بصور ونظريات متنوعة قديمة و حديثة؟!
وعندما نقبل جدلاً موت النقد الأدبي ونقبل جدلاً إحياء الثقافي ونفرض جدلاً قضاء النقد الثقافي على الأنساق الثقافية في النص الأدبي، فهل نعيد إحياء النقد الأدبي كدمية نفعل بها ما نشاء ونميت النقد الثقافي حينها كلعبةٍ نلهو بإماتتها ؟!
ما الثقافة التي يستطيع النقد الثقافي الاعتماد عليها دون موتٍ لها ؟! وهل سيأتي يوم نُميتُ فيه النقد الثقافي السابق ونستبدله بجديد بناءً على موت الثقافة القديمة خضوعًا للعصر المتجدد؟!
وما الذي يعنيه النسق الثقافي الفحولي الذي استشهد به الناقد الثقافي - في شعر نزار قباني في قوله: ( ما ذا تقول للشاعر. ....)
2 - بالنسبة للملحد ؟! فهل نقول هنا بموت النقد الثقافي لكونه لا يوافق كل الأفكار والحضارات والأديان ؟!
إن فكرة موت العلوم أو إماتة العلوم والفنون والنظريات تحمل في طياتها تطرفاً فكرياً، والتطرف الفكري يفيد الفكر لا المفكر، فالفلسفة مبنية على التطرف تاريخيًا منذ اهتمامها بالإله عند آباء الفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو ومن ثم اهتمامها بالطبيعة والعلوم عند فرانسيس بيكون وحتى العقلانيين عند ديكارت وكانتْ ومرورًا بالتجريب حتى التوفيق عند فلاسفة الفلسفة التحليلية، فالتطرف منهج فلسفي مفيد للفكر عمومًا لكنه يجعل المفكر والناقد في مساحة مغلقة على فكرته التي سيحشد لها كل ما أمكنه من أدلة بكل أنواعها فيخدمها بحق لكنه سيخسر بحبوحة الفكر والنقد التي تتوافق فيها كل النظريات لتكوّن نظريات أخرى جديدة ولا أدل على ذلك من نشأة التداولية.
** ** **
1- انظر: النقد الثقافي، عبدالله الغذامي ص89
2 - المصدر السابق ص249