توجد محاولات عديدة لتعريف اللغة أو توصيفها، ولا يوجد نقد أو إعادة قراءة أو مقاربة لتلك التعريفات، بل يوجد عدم اكتراث وكأنها لا تعني أحداً، بالرغم من ارتباط الفكر والعلم والإبداع والتواصل الاجتماعي والتربية والتعليم والعواطف والمشاعر والفن بأنواعه، أي الوعي الاجتماعي كله باللغة.
التعريف الشائع في الموسوعات والقواميس هو أن اللغة هي نسق من الأصوات للتعبير عن المشاعر والأفكار، وهي أداة للمعرفة. قد تختلف الصياغة من موسوعة لأخرى أو قاموس لآخر، ولكن المضمون يبقى في الإطار نفسه.
من الواضح أن التوصيف يشمل جميع اللغات وليس لغة بذاتها، كما أن المقصود هنا هو لغة المجتمع الإنساني وليس سواه، أي أنه يتجاهل وجود لغة بين عناصر القطيع أو السرب أو تجمعات الحشرات وما الى ذلك.
هل اللغة هي صوتية فقط؟ بالطبع لا، فهناك لغة الجسد ولغة الإشارة، ولغة العواطف كالحزن والسرور والصمت و(الزعل) والارتياح وما شابه ذلك، كما أن التواصل الكلامي ليس واحداً، فبالإضافة الى اللغة المستخدمة للحاجات اليومية المباشرة توجد لغة الصحافة والأدب والموسيقى ولغة الحاسوب والاختصاصات المختلفة كالطب والهندسة والرياضيات والكيمياء والفيزياء.....الخ.
تبقى العلاقة بين اللغة والمعرفة بحسب التوصيف المذكور، هل اللغة مجرد أداة للمعرفة؟ أم هي خزان لها؟ أم هي تراكم معرفي؟ أم هي كل هذه الأمور مجتمعة؟.
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، لابد من تسليط الضوء على عملية المعرفة ذاتها وكيف تنمو، فهي ذات محطات متتالية، تبتدئ بالملاحظة ثم الفرضية ثم التجربة ثم النظرية ولا تقف عند هذا الحد، بل تستمر فتخضع النظرية الناتجة مرة أخرى للملاحظة، وهذا لا يعني أنها تعود الى نقطة الصفر، إنما تبتدئ بطور أعلى من الملاحظة المتراكمة الذي يفضي الى فرضية أو فرضيات جديدة تدخل في التجريب لتنتج نظرية أو نظريات تراكمية أعلى طوراً من الأولى، ويكون مسارها بهذه الطريقة ليس دائرياً وكأنما في حلقة مفرغة، بل حلزونياً ترتفع حلقاته تصاعدياً باستمرار، لأنه مرتبط بالنشاط الاجتماعي، وهو تراكم وتبادل تجربة عبر التاريخ.
اللغة ليست أداة فقط، إنما هي الحاوية للعملية المعرفية، فهي الخزان لتراكم التجربة، أي الوعي ذاته، وهي المحرك للعملية برمتها، ولذلك عندما نريد توصيف العلاقة بين اللغة والمعرفة يجب الأخذ بعين الاعتبار ارتباط اللغة بالنشاط الاجتماعي، ولا تكفي الإشارة لوظيفتها كأداة للمعرفة وحسب، بل نشأتها وتطورها وما هي عليه الآن وما هو المتوقع لها مستقبلاً.
مناهجنا التعليمية كما المناهج في العالم كله توصف اللغة بأنها أصوات، (حروف) تشكل مجموعة منها (كلمة) ومجموعة الكلمات (جملة) ومجموعة الجمل (كلام).
هذا التوصيف يسلط الضوء على منشأ اللغة، فهي بدأت بالأصوات، التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان، بل إن بعض بقايا الشعوب البدائية تستطيع التخاطب مع الطيور وبعض الحيوانات الأخرى بتقليد أصواتها، ولكن الحيوانات لا تستخدم الأصوات كحروف لأنها لا تستطيع أن تكون كلمة، إنما تستخدم الصوت للدلالة على حاجاتها الآنية المحددة والنسبية، كالكلأ والمشرب والخطر والرحيل والتزاوج وما الى ذلك.
الكلمة دون الدخول في جملة هي مفهوم مطلق لا يستطيع استخدامه إلا الإنسان، وهو ما يميزه عن الحيوان، فإذا نظرنا الى كلمة ماء منفردة، فهي لا تعني الماء الذي في الكأس فقط أو الذي في النهر أو البحيرة أو البحار أو المحيطات، إنما هي مفهوم مطلق يعبر عن كل تلك المياه، وهو لا يوجد إلا في الوعي، ففي أرض الواقع يوجد ماء محدد المعالم فقط.
استخدام المضمون الواعي للغة هو الذي جعلها جزءاً من إنسانية الإنسان، أي إنها أنسنته حينما استخدمها ليزرع ويدجن الحيوانات، ويصنع الأدوات، ويوزع الأدوار الاجتماعية، وينشيء حضارة ويبقى في رقي مستمر. اللغة (الإنسانية) هي حلقة الوصل بين الفرد وإنسانيته أولاً، وبينه وبين مجتمعه ثانياً، وهي مهد تطوره وفاعليته، فهو يؤثر ويتأثر عبرها.
تنشر الصحافة العالمية بين الفينة والأخرى عن تحقيق نجاحات في تعليم بعض الحيوانات عدداً من الكلمات الإنسانية، كان آخرها أن طير ببغاء تعلم مائة وعشرين كلمة، ولم تعط أي تفاصيل إضافية حول ذلك. وهذا أمر ممكن الحدوث بالرغم من صعوبته والمجهود المبذول لأجله، ولكن يبقى ذلك الببغاء حيواناً حتى لو تعلم ضعف ذلك العدد، لأنه يستخدم كلمة طعام عندما يجوع وليس بمعناها المطلق، وكذلك الكلمات الأخرى.
تروج بعض أفلام الرسوم المتحركة مثل (ماوكلي) أن طفلاً تربى بين الحيوانات وأصبح يتحدث لغتهم ولغة البشر في آن، هذه الفرضية معتمدة على فلسفة ابن طفيل (1105-1185)، الذي ألَّف قصة (حي بن يقظان)، حيث تربا ابن يقظان هذا افتراضاً في كنف غزالة في الغابة، وعندما كبر شاهد صدفة عابر سبيل من المجتمع البشري فأخذ يقلد حركاته وتبنى (فكره) دون أن يراه عابر السبيل.
لن أبحث في نقد هذا الطرح، فقد تولى هذا الموضوع فلسفياً كبار الفلاسفة مثل ابن رشد وابن باجة وابن سينا والفارابي وغيرهم، ولكن أورد هنا ما تم اكتشافه علمياً، وهو ما يدرس في كليات الطب في جميع أنحاء العالم، لقد تم اكتشاف أنثى تربت مع الحيوانات في الغابة، وتم تحديد عمرها طبياً (عشرون سنة)، وُجند لها فريق متخصص لتعليمها، فلم يستطع ذلك الفريق تعليمها حتى المشي على قائمتين فضلاً عن استخدام اللغة. يقال إن التجربة هي مقياس الحقيقة، وقد ثبت من خلال هذه التجربة وغيرها أن السلوك واللغة هي مكونات اجتماعية، لا يستطيع من تربى مع الحيوانات وعيها حتى لو كان من أصل بشري.
يوجد سؤال مطروح إجبارياً في الطب النفسي: متى يصبح الطفل إنساناً؟ الإجابة المعتمدة في الامتحانات هي إجابة (فرويد)، وهي عندما يقول الطفل كلمة (أنا)، وهذا معناه أنه وعى ذاته كفرد، وهو أمر في غاية الأهمية في مراحل النمو، ولكن ماذا لو أضفنا الى ذلك أن إنسانيته تكتمل باستخدام (الكلمة) كمفهوم مطلق؟ لا أدعي هنا أنه يوجد خلل في مقولة فرويد، إنما أردت أن أشير للمكون الاجتماعي (الموضوعي) للإنسان المتجسد باللغة، فهو بذلك يعي ذاته والآخرين.
إذن إذا أردنا توصيف كلمة لغة، أي تعريفها فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار كل مكوناتها ووظائفها. التواصل بين الأفراد والمجموعات هو أحد وظائف اللغة، ومخزون الذاكرة والمكتبة والحاسوب أحد وظائفها أيضاً. كانت الذاكرة الجمعية لوحدها هي التاريخ المحرك للتطور الاجتماعي قبل الكتابة، هي المستودع لاستكمال التجربة والمفهوم بكل أبعاده العلمية والشعرية والروائية والأسطورية وكل ما يتعلق بالمشاعر والوعي وبالتالي تكون اللغة المنبثقة من التفاعل والتطور هي صانع التفكير الذي يجهله عالم الحيوان.
اللغة الإنسانية إذن: هي المكون الأساسي لإنسانية الإنسان ومخزون التجربة المحرك لتفاعله وتطوره اللاحق.
اللغة هي محصلة التطور ومحرك له لأنها المستودع الفكري والفني والأخلاقي لتطوره، وبالتالي إيقاف اللغة عند نقطة تاريخية معينة يعني القضاء عليها، فالمجتمع لا يموت ويتجاوز لغته إذا توقفت كما جرى ويجري حالياً في العالم العربي. لا يوجد شعب عربي واحد حالياً يتحدث الفصحى، وتجاوزت اللهجات الشعبية حتى شعرا اللغة الرسمية. أما الدول الأوروبية فقد أدركت خطورة الأمر وأوكلت لجامعاتها مهمة رصد الكلمات والمصطلحات المستجدة وإضافتها للقاموس وردم أي هوة تنشأ بين اللغة الدارجة والرسمية.
اللغة ترتبط بمجمل النشاط الإنساني وخاصة الإنتاج المادي والفكري، وتعاني الدول النامية من الانفصال تدريجياً عن لغاتها واللجوء للغات الدول الصناعية من اجل سوق العمل، فهل اللغة العربية أقل إمكانيات من اللغة الإنجليزية؟ بالطبع لا، بل إن العربية ذات أبعاد بلاغية ومخزون حضاري يفوق إمكانيات الكثير من اللغات بما فيها الإنجليزية، ولكنك عندما تصيخ السمع للأجيال الجديدة وهم يقولون مثلاً: رحت (السوبرماركت) واشتريت (بنطلون) (جينز) وأكلت (همبرغر) وشربت (بيبسي) يرتسم أمامك السؤال التالي: لماذا هذه المفارقة؟ لأننا ببساطة غير منتجين انما مستهلكين فقط، كما أننا قيدنا لغتنا قسراً فلم يجد التطور الاجتماعي سبيلاً إلا اللجوء الى اللغات الأخرى ويبتعد تدريجيا عن تراثه التلقيني الجامد.