مضى حديثي عن الجامعات والتعليم العام كلٍّ في ما يخصّه.
والآن أصرف الحديث إلى ما يشمل الجانبين: الجامعات والتعليم العام وأذكر منه أمرين:
الأول: العامّيّة إنها أحد الخصمين اللدودين للغة العربية بل العدوّين – وسيأتي ذكر الخصم الآخر إن شاء الله - والمعلمون بعامّة ومعلمو اللغة العربية بخاصّة غارقون في هذا الوحل لا يستثنى منهم إلا القليل القليل.
وغلبة العامية في المجتمع لا تتيح عذرًا للاستمساك والتشبث بها في كل موطن، فلكل مقام مقال، ومن حقّ العلم على حامليه تكريمه واحترامه فلا يجوز تلويثه بدنس العامية، فعلى الأساتذة والمعلمين إذا أووا إلى الجامعة والمدرسة أن يعلموا أنهم في حرم يستحق الإجلال لأنه رحاب العلم، وتعليم العلم من المهن السامية بل هو أسماها.
يعتذر المغرمون باللهجة العامية بأنهم يريدون إيصال حديثهم إلى السامع بما يفهمه، وأكثر الناس: طلّبًا وغيرهم يجدون صعوبة في فهم الحديث باللغة الفصيحة. وهذه الدعوى من قبيل الأوهام والبهتان، فالناس بجميع طبقاتهم وفئاتهم يسمعون خطب الجمعة وأحاديث المتحدثين بوساطة المذياع و(التلفزيون) ويقرؤون الصحف والمجلات ولا يجدون صعوبة ظاهرة في ذلك.
آخرون يتعللون بأنهم يجدون صعوبة في التزام الفصيحة. وربما كان هذا حقًا لكن ينبغي مغالبته بالمحاولة المستمرة وتلمس أسباب الصعوبة، وبإذن الله ستنحلّ العقد وتنكشف المهابة. وقد يكون من هؤلاء فريق غير راغب في الفصيحة مؤثرًا للعامية عليها، لكنهم يتذرعون بذاك العذر مواراةً لأهوائهم.
فهؤلاء مرضى يجب علاجهم بالحسنى وأخذهم بالتوجيه اللطيف حتى يتبين لهم الحق، حسن الظن فيهم مقدم، عفا الله عنهم وعافاهم.
لست أدعو إلى أمر لا يستطاع، وإنما أقول: ليكن حديثكم بلغة فصيحة معربة معتدلة بعيدة عن التقعر، فهذا جدير بأن يجعل الفصاحة سليقة غير متكلّفة وحريّ بمكافحة الخجل الّذي يعانيه بعض الناس حين يتحدث باللغة العربية المعربة خشية ازدراء السامعين له مع أنه لم يرتكب ما يوجب ذلك، بل إن ما فعله هو الحقّ عينه (والله لا يستحيي من الحق).
نعم: ينبغي البعد عن تقعرات عيسى بن عمر الثقفيّ -طاب مأواه- وممارسة الحديث بأسلوب سهل سلس مألوف، وليكن هذا الدأب ديدننا حين نتحدّث وحين نكتب.
فإذا تمّ ما أدعو إليه في الميدانين: الجامعات والتعليم العام وحافظنا على دوامه وملازمته فسوف ينشأ بيننا مجتمع فصيح اللسان معتدل البيان يشبه مجتمعات القرن الأوّل الهجريّ.
ربّما يرى ذاك كثير من الناس ضربًا من ضروب الأمانيّ ويقول: الأمانيّ رؤوس أموال المفاليس.
ولهم أن يقولوا ما شاءوا، لكنّي أقول دعونا نجرّب و(عند الصباح يحمد القوم السُّرى).
وللإعلام: الخطّيّ والصوتيّ والمرئيّ الصوتيّ من السعي إلى مكافحة العامية واللحن الأثر البالغ وله إسهام مؤثّر في إشاعة الألفاظ والجمل الفصيحة إذا رغب الكاتب والمتحدّث في ذلك، وأحسب كثيرًا منهم قادرًا على حمل هذه المهمة وأدائها بجدارة إذا تحقّقت العزيمة وصحّت النيّة، فصياغة المقال أو الخبر بعناية لها أثرها الإيجابيّ على الكاتب لأن التزامه ذلك وممارسته بكثرة سيجعلان الفصاحة عنده سجيّة لا يحتاج معها إلى المعاناة في تخيّر الكلمات والجمل المنتقاة.
ولا يستطيع الإعلامي أن يؤدّي الأمانة حتى يصبح حديثه المكتوب والمنطوق معربًا منزّهًا عن العاميّات أيًّا كان موطنها، وأحسب ذلك يسيرًا مع التصميم والممارسة المستمرة ، وكم عرفنا منهم رجالاً إذا كتبوا أو تحدثوا أعجبوا القارئ والسامع ونبّهوا مشاعره وسيطروا على أفكاره لجودة ما يقرأ وروعة ما يسمع «إن من البيان لسحرًا».
العدوّ الثاني: اللغات الأعجمية بخاصة الإنجليزية:
كانت اللغات الأعجمية من قبل ظهور فجر الإسلام تخالط العربية عن طريق الرحلات المتبادلة للتجارة أو غيرها، وكان العربيّ قادرًا بطبعه وسليقته على تعريب ما يفد إليه من كلمات أعجمية، وبعد أن أشرق الإسلام وتتابعت الفتوح زاد سيل العجمة وكثرت الكلمات الزاحفة إلى العربية وكانت المقاومة ممكنة حتى كاد الأمر يصل إلى العجز عن المكافحة إلا أن رجالاً من ذوي الغيرة والعلم ضاقوا ذرعًا بذلك فهبّوا للبحث وجرّدوا أقلامهم وهجروا الراحة في سبيل الدفاع والمقاومة فأخذوا في التعريب وتمييز الدخيل من الأصيل فظهرت الكتب تحوي الكثير من الكلمات المعرّبة أو المترجمة واشتهر عدد من العلماء الأعلام الّذين خاضوا هذا الميدان رحمهم الله.
لكنّ سنة الله في خلقه ماضية فظهر الوهن وفترت العزائم فخبت جذوة النشاط وتضاءلت جهود التعريب ولم تتوقّف حتّى إذا صار الأمر إلينا نحن أهل القرنين الهجريين الرابع عشر والخامس عشر غشينا طوفان من الغرب فاستسلمنا له بل تلقّيناه بالقبول وفتحنا له الصدور وأخذنا نتباهى باستعمال المصطلحات والكلمات الإنجليزية بل بذلنا الجهود لنشرها وأصبحنا كالشاعر الّذي قال عن نفسه:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا
فهل لنا من نهضة حكيمة موجّهة بها نتعلّم ما نشاء من اللغات لنقتبس ما عند أهلها مما ينفعنا ويمكّننا من الوصول إلى ما وصلوا إليه لا لنبيح حمى عربيتنا ترتع فيه تلكم اللغات نسمع ذلك ونراه فلا نبالي ولا يحمى لنا أنف:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميّت إيلامُ
لقد علمنا ما يفعله الألمان وأهل فرنسا والإنجليز والعبريون وما يتّخذونه من الاحتياطات لحماية لغاتهم وما يمارسونه من الوسائل للذود عنها بل لنشرها وبثّها بين العالمِين.
حماية اللغة العربية والدفاع عنها أمانة سيسأل عنها العالم الإسلامي والأقطار العربية أجمعين، ونحن أهل الجزيرة العربية حُمِّلنا من هذه الأمانة معظمها، فهل لنا من نهضة عازمة حازمة بها نصلح ما أهملته يد الغفلة الطويلة حتّى اتسع الخرق وألفنا اللحن وغشيتنا العجمة.
لا ينبغي لنا أن نتهاون في أمر هذه القضية مهما حمّلتنا من الجهود؛ لأنها دينية قومية.
يصل الحديث والبحث الآن إلى النظر في من يناط به أمر التنفيذ وطرائق التنفيذ:
في المملكة العربية السعودية جهات متعددة عليها مسؤولية العمل الجادّ لمكافحة مظاهر العامية والعجمة وتنقية المحيط الداخلي منهما، وفي مقدّمة هؤلاء الجهات:
مركز الملك عبد الله الدَوْلي لخدمة اللغة العربية وإلى جانبه الجامعات ووزارات: التربية والتعليم والتجارة والصناعة والصحّة والإعلام والشؤون البلدية والقَرويّة ممثّلة بأمانات المناطق، ووزارات أخرى أرغب عن ذكرها صافحًا عن التطويل مكتفيًا بمعرفة القارئ لها، ولن تحسم هذه المشكلة إلا بمعلِّق للجرس ألا هو: أوّلاً تنشيط الأمور الملكية الكريمة الّتي صدرت في أزمان متتابعة تقضي بذلك، لكنها جُمدت ونسيت، ثم تكوين لجنة عليا مختارة من المتخصصين في علوم اللغة العربية ومن الإداريين القياديين القادرين على العمل في هذا الميدان الراغبين فيه ويتولّى تنظيم هذه اللجنة والإعداد لها والمشاركة فيها مركز الملك عبد الله الدُوْلي لخدمة اللغة العربية.
ولا يُستغنى عن إعداد خطّة محكمة حكيمة تفصِّل خطوات العمل ووسائل التنفيذ، ومن أولى ما يُشار به لتتضمنه الخطة ما يأتي:
1- إجراء حصر شامل للمحلّات التجارية والأسواق والشركات والمطاعم والمطابخ والمقاهي والمتنزّهات وأماكن الترفيه واللوحات الإعلامية الدعائية و محطّات الوقود والمصانع والمرائب (الورش) وغيرها مما لا يلزمني ذكره.
فما كان منها يحمل في واجهته اسمًا أعجميًا أو عامّيًا يؤمر صاحبه بالتعديل مع تزويده بالبدائل المقبولة عربيًا.
2- استقراء الكلمات الشائعة على ألسنة الأساتذة والمعلمين والمعلمات والطُلَّب يستوي في ذلك الكلمات المستعارة من لغات أعجمية والمقتبسة من لهَجات عامّية، وهي كثيرة لا تعجز المحصي ولكنها قد تضنيه.
3- جمع الألفاظ المتداولة بين الموظفين والعمال المتعلمين: عامّية أو أعجمية.
4- حصر ما يدور من هذه الكلمات بين الإعلاميين: الرجال و النساء في فروع الإعلام كلها.
5- إجراء عملية شاملة للمصنوعات والمنسوجات لحصر ما تحمله من الأسماء والأرقام والرموز والاختصارات غير العربية سواء كانت هذه معدّة محليًّا أو في خارج المملكة بناءً على طلب من شركات سعودية أو رجال الأعمال، ولا بعد في ذلك ولا عسر لأن الشركات الناتجة مستعدّة كل الاستعداد لتلبية رغبة العميل.
6- إحصاء ما يتردّد على اللُسُن في الشارع والمجالس من الكلمات الأعجمية وبعبارة أكثر شمولاً الكلمات الشائعة في المجتمع.
7- تنقية العلوم العربية كالأدب وعلم النفس وعلم اللغة العربية وعلوم الحاسب والهندسة والطبّ من المصطلحات الأعجمية الآتي لها بدائل عربية أو معرّبة تلكم المصطلحات المحشورة حشرًا متكلَّفًا لا مقتضِي له إلا الولع البالغ بالغريب:
أمّة قد فتّ في ساعدها
بُغضها الأهل وحبّ الغربا
مما يجب ذكره ويتعيّن تذكّره عند دراسة هذه القضية:
1- البعد عن الاعتماد على الرأي المجرد من العلم والركون إلى المقولة المشهورة المستوردة ألا هي: إقرار ما شاع على ألسنة المثقّفين.
نعم الرأي مطلوب إذا كان مستندًا إلى أصول علمية صحيحة تبيح الاجتهاد.
2- وضع ضوابط دقيقة محكمة يبنى عليها اختيار الأعضاء العاملين في المركز تحول دون المجاملات ولا تجعل الشهرة أو العلاقات الشخصية واتخاذها عاملاً مقدّمًا عند الاختيار.
3- تقديم ذوي التخصّصات اللغوية الدقيقة، ولا بأس باختيار غيرهم إذا كانت له عناية بالبحث في قضايا العلوم اللغوية العربية البحتة.
4- الاستفادة من التجارب السابقة بعد مراجعتها وتدقيقها.
تجنّبت ضرب الأمثلة عامدًا قاصدًا لكثرتها وشهرة كثير منها.
ربّي اجعلني مسدَّدًا موفَّقًا في مقالي وفي أفعالي، فلا حول لي ولا قوّة إلا بك.