ما زلت أعتقد أنّ الحكي ثيمة أنثويّة، وليس لشهرزاد أثر بالغ في اعتقادي هذا، بقدر ما هو لممارساتنا اليوميّة بوصفنا نساء، وأمّهات، ذلك أنّنا لا نكفّ عن تحويل المعارف كلّها إلى حكايات نحكيها لمن حولنا، لأطفالنا، ولأصدقائنا، ولأزواجنا... ولا يقتصر الأمر على حكي حكايات ما قبل النوم، تلك الحكايات الساحرة الموروثة عن الجدّات، أو عن القراءات التي احتفظنا بها في ذاكرتنا، بل أقصد حكاياتنا التي نخترعها لتسويغ أشياء كثيرة، أو لإيصال وجهات نظرنا إلى الآخرين، وأنا أوقن أن القصّة القصيرة ما هي سوى تطوير لمثل هذه التسويغات والملاحظات، وأن اقترافها هو مغامرة حقيقيّة، لأنّ أيّ فتور فيها، أو إخفاق جماليّ هو إخفاق معرفيّ، يجعل مصداقيّة القاصّ وموهبته على المحكّ، ولطالما قلت إنّ كتابة القصّة القصيرة كالرقص على الحبال، أيّة حركة خاطئة، زائدة أو ناقصّة مؤدّاها ما لا تحمد عقباه.
لعلّ الاهتمام بالتفاصيل، هو أكثر ما يمنح الحكي لونه الأنثويّ، فالنساء أكثر ولوعاً في التفاصيل وفاقاً لعلم النفس الجندريّ، والقصّة تقوم على تفصيل يتضخّم، ويتحوّل إلى موضوع، يتشعّب، ليجعل من المألوف استثناء، أو ليضيء المعتم، أو ليلفت الانتباه إلى المختلف في المؤتلف، ببناء موجز، ومكثّف، وشعريّ، ممّا يمنح الأشياء قيمة مضافة، هي القيمة ذاتها التي يحملها «الجميل» بوصفه مفهوماً جماليّاً.
إنّ هذا التوقيع الأنثويّ الموسوم بـ (التفاصيل)، هو ما عكفت عليه القاصّة المصريّة رانيا هلال، في مجموعتها «دوار البرّ»، والصادرة عام 2012 في دار إيزيس في القاهرة، إذ تبدأ المغايرة في الحدث عبر مفارقة لغويّة، عنونت بها القاصّة مجموعتها، لتثبّت ثيمة رئيسة في الفنّ، وهي الاختلاف، فالمألوف أن يكون الدوار للبحر، لا للبرّ.
يبدو أنّ رانيا هلال تمكّنت من اكتشاف قواعد لعبة القصّ، التي تعتمد نظام تبادل الأدوار بين المتن والهامش، وراحت تنوّع عليها، لتصنع مجموعتها المكوّنة من خمس عشرة قصّة، تبدأ بـ «شاي بالنعناع الأخضر»، والتي تنقل صراعاً داخليّاً جندريّاً بين المرأة وفكرتها النمطيّة عن الرجل، و تنتهي بالاستسلام الظاهريّ لأعراف النسق الجندريّة من جهة، وباستمرار ثورة داخليّة غير معلنة على تلك الأعراف من جهة أخرى.
تبدو في قصّتها «صندوق يعتلي الهامات الضاحكة» قوّة الأشياء التي تسم البشر بسماتها، فيتوارثونها، مثلما يتوارث الولد صندوق إصلاح الأحذية عن أبيه وعن جدّه من قبل، إنّه الوسم الذي يحمله أصحابه حتّى لو كرهوه، وبذلك تنتفي في الحكايات موضوعيّة الأشياء، فتصير محمّلة بالمشاعر، ومنتجة للمواقف، وتكتسب قيمة ثقافيّة، لا استعماليّة فحسب.
تهتمّ قصص مجموعة «دوار البرّ» بتعاضد المهمّشين، والمستضعفين، من نساء، وأطفال، وفقراء، ومرضى، في وجه الطمع والحرمان، كما تهتمّ في الوقت ذاته بتعدّد ألوان طيف الرؤية، واختلافها، وفاقاً للموقع الإديولوجيّ لصاحب تلك الرؤية، على طريقة (باختين)، كما نجد في قصّتها «دم ثقيل»، إذ يختلف موقف الناس من المعاناة الواحدة، فيوصف دمّ الرجل الذي أزهق، بأنّه دم ثقيل بالنسبة لعاملة النظافة التي ستمسحه من على جدار المستشفى.
لا يقتصر ما تضيفه رانيا هلال في مجموعتها «دوار البرّ» إلى مدوّنة القصّ العربيّ، على الصراع بين متن وهامش تقليديّين وواضحين، أي بين سلطة النسق والخارجين عليها، بل تذهب بعيداً نحو هامش الهامش، أي نحو الهامش الذي يخلق هامشه أيضاً، ويضطهده، ويصنع منه ضحيّة بديلة، لذلك نجد شخصيّات القصّص، ضحايا وجلاّدين معاً، تنتمي إلى عالم الطرقات تحديداً: بائعي الذرة، وبائعي السوس، وبائعي المناديل المعطّرة، والمحبّين المحرومين، وعاملي الحدائق.. إنّه العالم المقهور في ديناميكيّته القصوى، بعيداً عن السطوة المباشرة للسلطة، والمال، والثقافة، لكنّه ظلّها الذي لا يفارقها ألبتّة.
تقول رانيا هلال في قصّتها «في انتظار الأسود»:
«معظم الأطفال تنتهي نقودهم داخل المدرسة، فكثيرة هي أنواع الحلويّات المغلّفة، التي تشجّع عليها الأمّهات، وتكثر ألوان أغلفتها، وكأنّها تنادي بأعلى صوتها عليهم، فضلاً عن توافرها طوال العام.
أحدهم قادم، ومعه والدته التي تتحدّث في هاتفها منادياً:
- من ده يا ماما، قلتلك من ده، اسمه توت.
- «طيّب .. بس بصّ يا حبيبي .. إيدها مش نضيفة، لونها أسود، مش هينفع يا حمادة...».
لا شكّ في أنّ التوغّل في بؤس الهامش هو نقد لاذع للمتن، ذلك المتن الذي طالما كتب تاريخه من وجهة نظر الأقوياء، والمنتصرين، والمتفوّقين، وبمثل هذا التدوين للتفاصيل نشأت المرويّات التي عاضدت التاريخ النسقيّ، لكن يبدو أنّ الوقت قد حان لتكتب التفاصيل بتوقيع أنثويّ، وسيقودنا تراكمها إلى صناعة أنثويّة لتاريخ الأشياء.