تعرّف الحقيقة، من عهد أرسطو، بأنها علاقة تطابق بين الرأي أو الفكرة التي تـُحملُ عن شيء من الأشياء أو ظاهرة من الظواهر وما هي عليه. ومع أن الناس قد اعتادوا على أن يحملوا عن العالم والوجود والواقع والأشياء والظواهر أفكارا وآراء يعبّرون عنها بالكلام حتى لم يعد ذلك يثير فيهم تساؤلا فإن ما لا يمكن فهمه، حسب إنشتاين مثلا، أن «يكون العالم قابلا للفهم». ودون الدخول في تفاصيل ما يبحر فيه المختصّون في نظريات المعرفة من نقاش في إمكان هذه المطابقة بين فكرتنا عن الشيء والشيء نفسه أو استعراض الشروط التي وضعوها لها حتى تكون «الحقيقة» حقيقة، نكتفي بالتذكير بأن معظم الحقائق إنما توصِلُ إليها العلوم بالملاحظة والتجربة والتثبت وصوغ القوانين. وكانت البشرية قد مرّت، في ذلك، بمراحل وعهود كثيرة أوصلت إلى أن أصبح «العلم» متحكما في الطبيعة والحياة على نحو لم يعد قابلا للاستغناء عنه.
إذا كانت الحقيقة علاقة مطابقة بين الفكرة التي في الذهن وما تتعلق به في الواقع والوجود بدا الأدب خاليا منها تماما. فهو ليس صورة منقولة عن الواقع الموجود، فنحن نعرف الواقع ما دمنا نعيش فيه، ووضع صورة أخرى مطابقة له تكرره أمر لا معنى له. ثم إن الأدب لا يسمّي الوجود وأشياءه فهذه التسمية قد نهضت بها اللغة وهي تستعمل في جميع وجوه الحياة. ثم إن الأدباء لا يتحدثون في أدبهم عن واقع قد حصل حتى تتيسر المقارنة بين الكلام ومراجعه ويتمّ التعرف عمّا إذا كان ذلك الأدب يحمل حقيقته. الأدباء يتخيّلون ويتوهّمون ويصنعون عوالم فيها من ألوان المبالغة والخروج عن المنطق والمشاهد والمجرّب شيء كثير. والأدب لا يأبه بالواقع ولا يهتمّ به فهو ضرب من ضروب «الكذب» يخلق واقعَه ويسوّيه ويصنعه ويوهمُ بأن الكلام الذي يقوله قابل لأن يكون. وهذا يصدق على جميع الأجناس الأدبية وجميع المدارس الإبداعية بما في ذلك أكثرها تقيّدا بالواقعية أو الطبيعية. الأدب اختلاق وتخرّص وتوهّم ولعب بالكلام وصنعٌ لنصوص لا تطلب مطابقة مع الموجودات بل هي تتنكـّبها عمدا وتجانفها وتتجنبها.
لم تفت القدماء أنفسهم هذه العلاقة الواهية بين الأدب ومراجعه غير أنهم كانوا مشدودين إلى نظرية «المحاكاة» شدّا محكما فكان احتفالهم كبيرا بمضارعة الواقع الذي يخلقه للواقع الموجود أو مشاكلته للمختبر والمعيش. تدلّ على ذلك، في النقد العربي القديم مثلا، مفاهيم من قبيل «الإصابة». ولعل قول ابن الأثير في «المثل السائر» متحدثا عن قدرة المتنبي على وصف الحرب إنه: «إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا...ولا شك أنه كان شهد الحرب مع سيف الدولة بن حمدان، فيصف لسانه ما أدّى إليه عيانه»، من أبلغ الأمثلة الدالة على ذلك. فالأدباء، في نظر القدامى، مطالبون بنقل الواقع مظهرا ومعنى حتى كأن ما يرتسم عند القراءة في البصائر يطابق ما تراه الأبصار وتعيه الأفهام. لكن الحداثة جاءت لتنسف نظرية «المحاكاة» نسفا.
أولت الحداثة «العلاقة بين الأدب والسياق التاريخي الذي يظهر فيه» اهتماما نقديا كشفت فيه عن أن الأعمال الأدبية لا تحاكي الواقع وإنما تصنع واقعا آخر يحمل معناه ويكتفي بذاته. استند نقد الحداثة لهذه العلاقة إلى الأعمال السردية، خاصة، فهي وإن كانت من أقرب الأجناس إلى «الواقع» فإنها لا تطابق ما كان قد حصل فيه. ومع أن من الشكلانيين الروس من لم ينف علاقة من العلاقات بين الأدب والواقع فإن البنيوية قد اتجهت إلى القول بأن الأدب لا حقيقة فيه إلا لما هو في نصوصه، وأنه كائن «لازم» لا يتعدّى إلى الإخبار عن العالم والإنسان.
عن هذا النقد الذي انصبّ على نظرية « المحاكاة» ظهر اتجاهان كبيران كان لكل منهما موقفه من «الحقيقة» التي تحملها الأعمال الأدبية.
الأول يركـّز اهتمامه على الكيفية التي ينتظم بها الخطاب الأدبي لينهض بوظائفه ذاهبا إلى أن «الطريقة» المتبعة في ترتيب مكوّناته وتفاعل بعضها مع بعض في تكوين بنيته هي التي تتضمن المعنى الذي يحمله والحقيقة التي ينطق بها. الحقيقة في الأعمال الأدبية مضمّنة بالطريقة التي تعتمد في بنيته. أما صلته بما هو خارج عنها فلا يوصل الاهتمام بها إلى شيء.
أمّا الاتجاه الثاني فقد رأى أصحابه العمل الأدبيَّ «متعدّيا» بمعنى أنه يخبر عن العالم والإنسان ويحمل بالتالي معنى للمرجع الذي يتعلق به بصرف النظر عن كون ذلك المرجع حقيقيا أو مختلقا متوهما. تمّ النفاذ إلى هذا الموقف من اللغة مادة أولى للعمل الأدبي فممّا يقدّمه أصحاب هذا الاتجاه أننا نتكلم لنقول شيئا نخبر به عن العالم والوجود ونعبّر به عن الذات. هذا الاتجاه أخذ به الظواهريون.
بين الاتجاهين مواطن اتفاق عديدة ومواطن افتراق. ففي كل منهما إقرار بأن للأدب، في كبير مجانبته للواقع ونأيه عنه وقلة اعتداده به «حقيقة» ووظائفَ ينهض بها. هذه الحقيقة وتلك الوظائف لا تلتمس بقراءته مثلما نقرأ سائر الأعمال غير الأدبية. وهذا قد فطن إليه القدماء من أزمان بعيدة رغم ما كان من شديد تمسّكهم بمفهوم المحاكاة. واستمرارا مع الاعتقاد في أن الأعمال الأدبية لا تقرأ لتفهم حرفيا اقتصر الاتجاه الأول على الاكتفاء بالقراءة الواصفة لأبنية النصوص الأدبية وتأويل بنياتها التأويل الذي يكسبها دلالة تظل مضمّنة بها، ففي هذه الدلالة تكمن «الحقيقة» التي تحملها تلك الأعمال. أما الاتجاه الثاني فقد قال أصحابه، مع الاعتداد بالمنحى الوصفي، بحقيقة خارجَ الأعمال الأدبية تحيلُ عليها وتفصحُ عنها. وها هنا تستعمل الهرمينوطيقا أداة للوصول إلى تلك الحقيقة التي تفصحُ الأعمال الأدبية عنها خارجَ نطاقها.
ظل الاتجاهان الكبيران مسيطرين على قراءة الأعمال الأدبية وظل الخلاف بينهما في مسألة «الحقيقة» التي تفصح عنها قائما. وعندما برزت المرحلة المصطلح عليها بـ «ما بعد الحداثة» ظل مشكل الوظيفة التي يضطلع بها الأدب والحقيقة التي يحملها قائما. فهو قائم في الذهاب إلى انفصال الأعمال الأدبية عن مراجعها وقلة احتفالها بها وإمعانها في خلق عوالم متوهمة كاذبة ومتخيلة مسرفة في الاختلاق. وهذا يوصل إلى أن الأدب، نظرا إلى أنه لا حقيقة فيه، قد لا يصلح لشيء. وهو قائم في القول بأن الأعمال الأدبية تحيل على واقع تنطق في شأنه بحقيقة ما، ففي هذا القول وَهَنُ توهّم «الحقيقة» في خارجٍ نقطعُ إليها المسافات، ووَهْيُ عَدِّه، صرّحنا بذلك أم لم نصرّح، من قبيل الأرواح بالنسبة إلى الأشباح أو المعنى بالنسبة إلى المبنى. وهذا وراءه موقف آخر يفترض شيئا غير معلوم لتفسير ما هو ماثل للعيان وحاضر في الوجود مستقيم في المشاهدة.
فما الذي يترتب عن الاقتصار على عدّ الأدب نشاطا بشريا لازما لا يتعدّى ذاته؟ وما الذي يترتب عن الإصرار على الخروج منه إلى الواقع أو السياق أو التاريخ للظفر بإحدى الحقائق التي يحملها؟