ذكر الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو في مقدمته لسلسلة رواياته الصادرة بالعربية قصة مقتبسة من موروث التصوف في الإسلام حيث سُأل فيها أحد كبار متصوفي الإسلام وهو يحتضر من كان معلمه فذكر أنهم بالمئات بينما الأكثر تأثيراً عليه هم ثلاثة وأحب أن أسرد هنا قصته مع معلمه الثالث حيث قال:
« أخيراً، كان معلمي الثالث ولداً. فقد حدث أن رأيته يسير باتجاه الجامع، حاملاً شمعة بيده،فبادرته بالسؤال: هل أضأت هذه الشمعة بنفسك؟ فرد علي الصبي بالإيجاب. ولما كان يقلقني أن يلعب الأولاد بالنار، تابعت بإلحاح، أسمع يا صبي: في لحظة من اللحظات كانت هذه الشمعة مطفأة. أتستطيع أن تخبرني من أين جاءت النار التي تشعلها؟
ضحك الصبي وأطفأ الشمعة، ثم رد يسألني: وأنت يا سيدي، أتستطيع أن تخبرني إلى أين ذهبت النار التي كانت مشتعلة هنا؟
أدركت حينها كم كنت غبياً. من ذا الذي يشعل نار الحكمة؟ وإلى أين تذهب؟ أدركت أن الإنسان، على مثال تلك الشمعة، يحمل في قلبه النار المقدسة للحظات معينه ولكنه لا يعرف أين أشعلت. وبدأت، منذ ذلك الحين أسر بمشاعري وأفكاري لكل ما يحيط بي: للسحب والأشجار والأنهار والغابات، للرجال والنساء، كان لي، طوال حياتي آلاف المعلمين وبت أثق بأن النار سوف تتوهج عندما أحتاج إليها، كنت تلميذ الحياة ومازلت تلميذها. لقد استقيت المعرفة وتعلمت من أشياء أكثر بساطة، من أشياء غير متوقعة، مثل الحكايات التي يرويها الآباء والأمهات لأولادهم. «
تلك القصة التي ذكرها باولو كويلو تجعلني أعيد النظر في كل ما حولي كمصدر للعلم واكتساب المعارف الجديدة، فالحياة بكل ما فيها من مواقف وطبيعة بيئية تستفز العقل ليفكر ويستنطق ذلك العلم الكامن خلف تلك المواقف والطبيعة، فالعلم ليس ما نحصل عليه من المنظمات التعليمية فحسب، بل من الحياة بأكملها، وتبقى الكتب والمنظمات التعليمية كوسائل تنظم المعرفة وتساعدنا لفهم ما حولنا من أمور بشكل علمي أفضل وتطور قدراتنا على استنطاق العلم والمعرفة من كل شيء حولنا.
فمازال الإنسان حتى اليوم يكتسب الحكمة من كبار السن، فحين تجلس إلى شخص بلغ من العمر ما بلغ وتتحدث إليه تكتشف أن الحياة قد طحنته حتى بات يعرف الوجوه ويميز الخبيث من الطيب بنظرة واحدة ثاقبة، هذا على الرغم من أنه لم يتلق في حياته تعليماً كبيراً وربما أن يقرأ ويكتب فقط وربما كان أمياً.
وحين أتحدث عن استفزاز الحياة للعقل ليتحرك وفق منظومته الطبيعية وهي التفكير فإن ذلك التفكير هو ما يجعلنا نبحث عن إجابة لتساؤلات نظن أننا نملك لها إجابة منطقية كافية، وهذا هو ما دفع بنيوتن ليبحث عن السر وراء سقوط التفاحة من الشجرة وعدم ثباتها في الهواء رغم أن الكثير من الناس كانوا سيقولون أن التفاحة سقطت لأن لا شيء يمسك بها فكيف لها أن تثبت في الهواء؟ وهذا ما حفز نيوتن ليبحث عن السر وراء عدم ثباتها في الهواء ليخرج للعالم بعد بحث طويل ودراسة مستفيضة بقانون الجاذبية الأرضية الذي ربما كان سيبقى غير معروف كما هو بصيغة نيوتن حتى وقتنا هذا لو أن تلك التفاحة التي سقطت من الشجرة لم تستفز نيوتن ولم يعرها أي انتباه ويبحث عن سر سقوطها..!
وهذا يذكرني ببضع أسئلة كنا نطرحها على بعضنا البعض حينا كنا صغاراً ونعتقد أو مازلنا نعتقد أنها بلا إجابات فكنا نقول مثلاً: (من جاء أولاً: البيضة أم الدجاجة؟) أو (لماذا الاثنين قبل الثلاثاء؟) وهلم جرا من تلك الأسئلة التي تبدو في ظاهرها أنها مجرد أسئلة طفولية ولكننا كنا نتلذذ بطرحها على الكبار لنحرجهم بأسئلة لا يستطيعون الإجابة عليها وهم الذين يتشدقون بما وصلوا إليه من علم أمامنا.
ولأن الحياة بدورتها هي أكبر معلم للإنسان فإن الحاجات الإنسانية وإشباعها تعد أحد وسائل التعلم حيث يرى ريموند ب. كاتل أن التعلم الشرطي الإجرائي هو ما يربط بين الوسائل وإشباع أهداف الدفعات الفطرية، كما يرى أن هناك نوعاً آخر هو تعلم التكامل، ويظهر في أساسه باعتباره نوعاً من أنواع التعلم الإجرائي المتطور، ويتعلم الفرد في هذا النوع من التعلم أن يحقق أقصى إشباع كلي طويل المدى بالتعبير عن بعض دفعاته الفطرية في أي لحظة وقمع أو كبت أو إعلاء دفعات فطرية أخرى.
من أجل ذلك تعلم الإنسان في العصور الحجرية الصيد وإشعال النار والنقش على الحجر وتكونت اللغات ووسائل التخاطب بالحديث أو الإشارة أو الرسم وعالجوا بعض الأمراض دون أن تتوفر لهم الإمكانيات والموارد ليستفيدوا منها في اكتساب العلم والخبرات، عدا ما وجدوه من بيئة صلفة قاسية وحاجة إنسانية غريزية دفعت ذلك الإنسان للتعلم مما حوله وكيف يمكنه الاستفادة منه وتطويعه في خدمته.
وهذا كله ينتج عن أسئلة تدور في ذهن كل منا عن الأشياء التي يراها حوله سواء كانت طبيعية أو موا قف بشرية هي: ( كيف؟ ولماذا؟ ) فلابد أن نبحث عن إجابتها ولا نهملها في عقولنا، فربما لو انطفأت نارها في عقولنا لن نستطيع إشعالها مرة أخرى.