Saturday 17/05/2014 Issue 438 السبت 18 ,رجب 1435 العدد
17/05/2014

أيها الروائي - قلمك سيفضحك

في اعتقادي أن الكتابة الروائية تعتبر من أصعب وأعقد الكتابات، إذا ما قورنت بفنون الكتابة الأخرى، خاصة إذا ما كنا نفرق بين لغة الكتابة ذاتها، فهناك من لا يمايز بين اللغة المباشرة واللغة غير المباشرة.

فالفن عموماً لا يقبل اللغة المباشرة ويسقط تماماً إذا لامسه شيء منها، ولابد أن يمتاز باللغة المراوغة والقابلة لأكثر من تأويل، وأكثر من دلالة، ومع ذلك فاللغة بصفاتها هذه، لا نجد أنها موجودة في الكتابات الروائية، إلا في نزر يسير منها، وربما لدى قلة من الكتاب الذين حصل بعضهم على جوائز عالمية، من كتابنا المحليين، لأنه مهما يكن الأمر لن تكفي الصداقات والعلاقات الخاصة لنيل جائزة عالمية ما لم يكن ذلك الكاتب مؤهلاً أصلاً وأعماله الروائية تقدمه بشكل جيد.

أعود مرة أخرى للفن، نلمس أن عدداً ليس يسيراً من الأعمال الروائية لا تهتم باللغة بالدرجة الأولى، لكنها أن تمكنت من نقل أحداث بيئية، وتمكنت من كسر كثير من التابوهات، وتناولت المسكوت عنه، فإنها لدى كثير من النقاد تقدم منجزاً يستحق أن يلتفت إليه، إذا ما اعتبرنا أنها ـ أي الرواية ـ التاريخ الحقيقي غير الرسمي للشعوب، ويمكن للمؤرخين الرجوع إليها لمعرفة كثير من تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها أبناء شعب ما أو منطقة ما، وهو ما حققه هذا الفن الحديث عبرها، لذا وجدنا كتاباً لا يرقون لمستوى كتاب سبقوهم في التجربة، وربما كانت تجربة أولى لهم في عالم الكتابة، لكنهم غامروا بكتابة روايات حققت هذا الشرط ومن ثم أخذت نصيبها من الانتشار والصيت الذي أوصل بعضها إلى أن تصبح روايات عالمية لكتاب سعوديون، حتى وإن لم تحصل على جوائز عالمية لأنها ربما لم تزاوج بين اللغة ـ كما ذكرنا أنفاً ـ وبين تناول قضايا إنسانية وكشف كثير من الأحداث الإنسانية، والانتهاكات الحقوقية في مجتمعاتنا.

إن الفن بطبيعته، يجب أن يتميز بالصدق، فأنت ككاتب عندما تتناول قضايا إنسانية بحته، لابد أن تتسم بهذه السمات، وإلا فإن قلمة سيفضحك، وعندما تتناول قضايا حقوقية، تدعو ـ على سبيل المثال ـ إلى نبذ العنصرية بأشكالها المختلفة فإنك لا بد أن تكون تتصف بهذه الصفة، وتكون أنت صاحب مثل هذه القضايا ومن يناضل ويدافع عن حقوق الإنسان، وينبذ العنصرية سواء أكانت قبلية أم عرقية أم طائفية وإلا فإن قلمك سيفضحك.

لذا فإن من يكتب عن قضية ما في عمل روائي، سواء أكانت إنسانية أو حتى محملة بالهم الإيديولوجي ـ لكوني أؤمن أن الفن لا يمكن أن يخلو من الأيديولوجيا ـ فإنك حينها تفضح حقيقة توجهك وحقيقة انتمائك، شعرت أم لم تشعر، فقلمك يفضحك، فكتابة الرواية ليست تقريراً صحفياً ـ الذي يجب أن يمتاز باللغة المباشرة غير القابلة للتأويل ـ أو مقالة صحفية، هي تجمع بين اللغة والحس والهم الداخلي، وفي ذات الوقت تمثل جزءا من كينونة الكاتب، الذي لا يمكن له أن ينفك عن ذاته وحقيقة ما يؤمن به، مهما حاول أن يراوغ ـ أما إذا حاول أن يتصنع فإنه حينها يسقط في اللغة المباشرة ـ ومن ثم يفشل عمله، بمعنى أن المراوغة هي لعبة لغوية في الأساس لا يجيدها سوى القادرون من القلة من الكتاب لدينا، وهي موهبة في الأساس وملكة، لكنها تأتي بالمراس والمداومة على القراءة والكتابة، كما أوصى بذلك الكاتب الكبير ماركيز ـ الذي توفي قبل أيام ـ فمن وصاياه أن تشعل يديك بالكتابة، بحيث تكون يدك ساخنة بالكتابة، من خلال المسودة المرافقة لك في كل مكان تجعلك تكتب المشاهد والمواقف الغريبة التي تمر بك، وحتى تلك المشاعر التي تلم بك، أو تراها في أعين الآخرين، وقد رددت ذات يوم في مقابلة صحفية أجريت معي على هذا الأمر، بأن مجتمعاتنا يا سيدي لا تساعد على تحقيق هذا الأمر، نحن لا نشاهد الناس ولا نلتصق بهم إلا بشكل قليل جداً ونادر، نحن نعيش حياة رتيبة، من المنزل إلى السيارة إلى العمل الذي به نفس الوجوه، ثم العودة مرة أخرى في دورة جديدة مكررة، لكن الاحتكاك والتعايش مع البشر والشعور بهم، أمر لا يتحقق كثيرا، أعجبني صديقي الروائي الذي يقوم بزيارة بعض الأشخاص من شخصيات روايته ويسجل معهم كثيراً من التفاصيل الصغيرة، ويستمع إليهم كثيرا، وهي فكرة جيدة.

أخيراً: كاتب هذه السطور كتب رواية واحدة، عانى أثناء كتابتها معاناة حقيقية جعلته، لا يمتلك الجسارة على كتابة عمل جديد، وهي ذات النصيحة أسديها لغيري، لمن لم تنضج كتابتهم الروائية، أو لم يتمكنوا من التعايش مع العمل الروائي، وتحوله إلى هم حقيقي يعيش مع الكاتب معظم أوقاته، أو لم تتحقق فيه الصفات الإنسانية التي ذكرتها في مطلع المقال، أن يهجر هذا العالم ليشتغل فيما يستطيع أن ينجز فيه ويحقق نجاحاته من خلاله، فجميل جداً أن يتمكن الإنسان منا من معرفة قدراته، واكتشافها والعمل على تطويرها.

قال الشاعر العربي قديماً:

إذا لم تستطع شيئاً فدعْهُ

وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ

- الرياض