عُنيت الروائية بتفاصيل المكان وتحولات الزمان
تتهادى الحالة الإنسانية على مهلها، وتترقرق كلمات الوصف عذبة وشجية، لغة يعدها الراوي لحياة «سهيل» وتفاصيل معاناته التي أعدها القدر له على نحو عجيب، لتتجسد الأحداث منبئة عن حكاية رجل عاش تناقضات الحياة وباتت عوالم من ذكرى استطاع الروائي والقاص خالد أحمد اليوسف أن يوثّقها ويحشد معانيها ودلالاتها في هذا العمل الروائي «وحشة النهار».. سيرة رجل هده اليأس ونالت منه الحياة تعباً وقوامها عناداً ومجاهدة حتى النهاية.
رواية « وحشة النهار» بيان إنساني فصيح، محمل على مفاصل معاناة الإنسان ممثلة بشخصية «سهيل» المحورية التي أخذت على عاتقها مهمة شرح التفاصيل كاملة غير منقوصة، وبأسلوب يستشعر القارئ من خلاله أنه أمام قضية إنسانية بنكهة موجعة، وألم فريد وأسلوب سردي آسر لا يستطيع القارئ لتفاصيله التوقف عن تتبع منعرجات حكايته الغريبة الأطوار.
عُني الروائي اليوسف بتفاصيل المكان وبرع في تتبع تحولات الزمان بمستويين، مستوى زمان بعيد يسرده في تفاصيل حياة والد «سهيل» ورفاقه ومن حوله من عوالم وشخوص وأحداث تحمل عبق الحياة البرية والمتيقظة في المشاعر، ومستوى زمان قريب يتجلى في لحظة الكشف والتتويج لمرحلة نهائية وأليمة عاشها البطل في سني اليأس وتهالك الأحلام وتهادي الحياة بمعانيها ومادياتها إلى نهايات أليمة وفاجعة.
برع الراوي على لسان الشخصية المحورية «سهيل» في سرد حدث واحد يتمثّل في سيرته الغريبة وحياته غير المعتادة، لتدور في ثنايا السرد جملة من أحداث الأخرى معززة لما يرمي إليه الكاتب من بلوغ ذروة الأحداث حتى تصير إلى نهاية أليمة للبطل وللمكان الذي شاخ ولم يعد سوى ذكريات وحسب.
فالنهايات في تفاصيل الرواية جاءت تتويجاً لجدلية محتملة يظهر فيها تواتر أو تصاعد في علاقات الشخصية المحورية، وتداخلها مع عناصر أخرى على نحو أهل الخفاء، وعرضها في كل لحظة من لحظات السرد، لتعزّز الحدث الأبرز وهو معانات البطل وخروجه من نمط الحياة المعتادة، على نحو وصفه بأكثر من موضع بأنه ممسوس، ويعاني من مضايقات أهل الخفاء، إضافة إلى أحداث أخرى على نحو جلب الذئب كتعزيز لمفهوم الدخول في الحالة والخروج منها بطريقة تقرب للقارئ حالة «سهيل» وكشف المزيد من الصور التي يعيشها بأسلوب سردي سلس، يتكئ على مخزون الذاكرة في عرض الكثير من الجوانب الخفية لحياة الشخصية.
وإضافة إلى عناصر المكان والزمان والحدث التي برزت في تفاصيل رواية «وحشة النهار» فإن الكاتب قد وظف اللغة والحدث والشخصيات توظيفاً مباشراً، إذ استطاع أن يسمي الأسماء بمسمياتها، فلم يقبل النص أي إيحاء أو توقع أو فرضيات، فبات ما يفكر فيه الكتاب متورداً وحاضراً على ألسنة الشخوص أو من خلال شهاداتهم على المرحلة التي عاشتها الشخصية المحورية.
فعناصر السرد في هذا العمل واضحة المعالم ومحملة على طاقة خفية وفكرة متوهجة عن مآلات الحياة في تجربة عابرة، لتنصهر الحكاية الخاصة لهذا الشاب أو الرجل مع ما سواها من حكايات عامة للمكان متمثلا بموقع جغرافي شمال شرق الوطن لتكون «رفحاء» و»كانب خط التابلاين» هي المسرح الحقيقي للحياة التي تدور عليها أحداث الرواية.
فهذا التوظيف المناسب للحكاية وتحويلها من كونها قضية أو مأساة خاصة لشاب يفقد الثبات والهدوء إلى قضية عامة تتمثّل في أن الحياة لا بد أن تكون طارئة في تلك الأجزاء من المكان، لا سيما جغرافيتها المعقدة.. تلك التي دأبت شركة الزيت «أرامكو» لأن تسعى إلى تخلق من مكان ناء ومقفر حياة جديدة تتمثّل في «كانب التابلاين» ليكون مكان وسكنا وحياة للعديد من الأسر التي كانت تبحث عن مصادر جديدة للرزق، ليظهر هذا الملمح الإنساني المتوتر كجزء من إفرازات هذه التجارب الجديدة في زمن ما بعد النفط.
لغة الرواية متوازنة في عرضها، وتقديمها للأحداث، وشرح تفاصيل المكان وحكايات الشخوص بشكل واضح ومناسب تعزيزاً لفكرة القضية الأولى والمتمثلة في صعوبة التعايش، وضيق أفق المكان، ونأي النفس عن ذاتها وأخلائها، وغياب تفاصيل الحياة الأصيلة حينما حلت لغة عملية جديدة، باتت تكبل الكثير من أبناء البادية والريف والقرى.
فالبيئة التي دشنها «اليوسف» في روايته حملت مضامين الصراع بين حياة الريف والبساطة وبين الإقامة شبه الجبرية لهؤلاء الشخوص الذين وجدوا الحياة هنا في هامش الزمان وأطراف المكان المنسي، لتتفاعل الذات مع كوامنها، فتنشأ هذه الحكاية التي قلبها الراوي على وجوه كثيرة، ليستخلص لنا حكاية «سهيل» وأهله، بل إنه أمعن في وصف محفزات كثيرة جعلته يحاذي الجنون، لتنتهي حياته بشكل أليم وفاجع وكأنها إيحاء رامز لموت فكرة المستعمرات الطارئة في حياة ريفية لا تقبل الانقياد والقولبة.
** ** **
إشارة:
- وحشة النهار (رواية)
- خالد بن أحمد اليوسف
- مؤسسة الانتشار - بيروت - 2014م
- تقع الرواية في نحو (160صفحة) من القطع المتوسط