قراءةُ الشعر الجميل متعة،وقراءةُ النقد له متعةٌ أخرى لا تقل جمالا عنها،وجدتُ نصا عذباً في ديوان أوراد العشب النبيل للدكتور عبدالله الرشيد،بعنوان (نرجسة القلب)،فبحثت عن التلقي لذلك النص،ووجدت قراءتين نُشرتا في الصحيفة نفسها: جريدة الجزيرة،القراءة الأولى بعنوان: قراءة عابرة في قصيدة غير عابرة إليك يا نرجسة القلب،كتبها الدكتور: عبدالإله بن عبدالعزيز العربي،في العدد 10208،وتاريخ 11-6-1421هـ،والقراءة الثانية جاءت عرضاً في سلسلة عنوانها: تقليب الجمر بأصابع اللغة الأنيقة،كتبها الدكتور سامي العجلان،ونُشر تعليقه حول النص في الجزء الخامس منها في العدد 14189،وتاريخ 4-9-1432هـ.
وربما لأن النصَّ زكيُّ النشْر،تباعد نشر القراءات وفصل بينهما عقد من الزمان،ولم يكن هذا هو الفاصل الوحيد؛ فبينهما فاصل بعيد في الحكم النقدي أيضا،وهو ما جعلني أجمع القراءة بين المتباعدتين حول القريب،وأشير إلى أن قراءتي هذه للقراءتين،لا للنص نفسه،فيما يمكن أن يسمى نقد النقد.
وإذا كان الناقد إيزر يرى أن (الأدب هو القارئ)،فإن التباين بين القراءتين ينمّ عن حركة النص العالية،فالنص الجامد هو الذي يعطي قراءات متشابهة كل مرة،فالقراءة الأولى أعلَت حكمها على النص،فيما رأته القراءة الثانية لا تقارب (مطلقاً) المستوى الرفيع لقصائد الشاعر.
القراءة الأولى وصفها د. العربي بأنها قراءة عابرة،وهي قراءة مخصصة للنص،بدأها بقوله: «تلك قصيدة ما أشبّهُها إلا بفافيت مسك وعنبر،كأنما روح عبدالله زهرة ياسمين عُصرت عصراً ففاح شذاها زكيا...».
لكن قراءة د. العجلان قراءة سياق لا نص،جاءت في عرض حديثه عن موضوع الغزل عند الشاعر والتي خلص منها إلى نتائج هناك. وإنما قارنتها بالقراءة الأولى لأنه اصطفى هذه القصيدة من بين قصائد الغزل،وأعطى أحكاما واضحة صارمة عليها،في قوله: «ومع هذا فإنّ هذه القصيدة المفضَّلة بين أخواتها لا تُقارب مطلقاً المستوى الفني الرفيع الذي وصلتْ إليه قصائد الشاعر في موضوعات شعرية أخرى؛ ولا سيّما قصائده المجلِّية في وصف التجربة الشعرية».
وكل قراءة تُبنى على تصوّر قارئها،ومن هنا سأقرأ التباين في عدة زوايا:
1- القراءتان ما بين الذاتية والموضوعية:
كلا القراءتين قريبتان من تأثر الناقدين بالنص من زاويتهما،وإذا كانت قراءة النص سلطة مؤلف ونتاجه وظروفه،أوسلطة قارئ وتفاعله وتجاوبه مع النص،فقراءة د. العربي خضعت لسلطة القارئ،فيما خضعت قراءة د.العجلان لسلطة المؤلف. ومن ثَم تصنف الأولى بالذاتية،والثانية بالموضوعية.
أما لماذا فربما كان وقت القراءة عاملا مهما،فقد تقدمت قراءة د.العربي بأحد عشر عاما،وربما منح هذا قراءة د. العجلان هدوءا وموضوعية وتحررا من وهج التلقي الأول.
وأما تأثير ذلك فهو واضح في ملء فراغات النص،فقراءة د. العربي تُشبع النص بالذاتية،وربما الشخصية وفق التوقع مع معطيات النص ودلالاته،أما قراءة د. العجلان - على مرورها السريع - ملأت النص بالحكم على أمر خارج هذه المعطيات،بأنها تجربة حقيقية،وهذا ما جعلها مستثناة عنده،والمستثنى منه قصائد الغزل المخفِق فنيا في خطابه للمرأة: «ويكفي هنا الاستشهاد بالقصيدة الأولى(نرجسة القلب) التي تصور تجربة وداع حقيقية نابضة بالحياة وبوقائع الأشواق»،فملء الفراغ هنا جاء استثناء بما يوافق السياق الذي يريد تأكيده،توافقا مع معطيات خارج النص (أنها تجربة حقيقية) لتأكيد النتيجة التي وصل إليها لاحقا. وهذا -في رأيي- حكم متعجل على النص،ففيه عدد من العبارات المبتكرة،والتي يستشعر القارئ جمالها دون أن تعنيه حقيقة مَنشَأ النص،وهو الأمر الذي التمسه د. العربي في قراءته الذاتية.
2- لغة القراءة بين الميل والاعتدال: قراءة د.العربي مكتوبة بلغة مأخوذة،مندهشة بالنص حدّ المبالغة أحيانا،كقوله تعليقا على بيت الشاعر:
خلّفتِ إيقاع الدقائق فاترا
بين الحروف ولم يلاق معينا
«ثمة في شعر الرشيد حروف حادة الزوايا،تمسّ قلوبا فتثير فيها معارك وحروبا،وتطحن في طريقها كل معنى كان يعتمل في النفس ولم يلاق مترجماً حاذقاً كعبدالله. ما هاته البساطة الآسرة؟ والمعاني التي كنا نظنها أبعد من درب التبانة ما له يلتقطها بكلتا يديه،ويتخير أطايبها وينشرها بين أيدينا بكل بساطة،بكل وضوح،بكل اقتدار؟ قلبك أنت يا شاعر حزين ومتعب؟! هل تخضع له السنن الكونية لأنه قلب شاعر؟»
وهذه مبالغة قد تؤثر سلبا على القارئ الذي سيقلّب البيت حرفا على حرف،يبحث -مع سبق ترصد- عن هذا المعنى البعيد الساحر،(وقد لا يجده).
على طرفٍ ثانٍ تأتي لغة قراءة د. العجلان للغزل الذي استثنى منه هذه القصيدة في مخاطبة المرأة: «ولكنّ الإخفاق الفني في هذه الحالة يحدث عندما يقع الشاعر في أسْر العبارات الجاهزة والصوَر النمطية المكرّرة التي تُفرغ التجربة الشعرية من دلالتها الذاتية المتفرِّدة ومن سخونة تعبيرها الحيّ عن العاطفة المتّقِدة»،والاستثناء لم يشفع للقصيدة فنيا،فكانت في قراءة د. العجلان صادقة عاطفيا،دون قدرات الشاعر فنيا: «لا تقارب -مطلقا- المستوى الفني الرفيع الذي وصلت إليه قصائد الشاعر في موضوعات شعرية أخرى». وقد تستحث كلمة (مطلقا) و(المستوى الرفيع لبقية القصائد) القارئ ليبحث عن الضعف،(وقد لا يجده أيضا)!
3- القطب الفني والقطب الجمالي: لا مقارنة هنا بين القراءتين حيث قراءة د. العربي مخصصة للنص،بينما قراءة د. العجلان للسياق وعنايتها بالديوان الآخر،لولا أنها وسمت القصيدة بالتدني الفني مقارنة ببقية قصائد الشاعر،دون حيثيات،أو تناول لمواطن هذا التدني،وكان هدف القراءة البحث في قصدية المؤلف،وواقعية التجربة،أكثر منه رأيا في النص نفسه،ومعناه الناتج عن تفاعل القارئ معه.
وبالمقابل جاءت قراءة د. العربي حافلة بإبراز جماليات النص،والوقوف بعض الوقفات الفنية لبنائه وصوره وألفاظه،من ذلك إبرازه لجمال المقطع (آخر بيت في القصيدة)،في شعر الرشيد عامة،وفي هذا النص خاصة،حيث يقول معلّقا على البيتين الأخيرين:
إن كنتِ دارية بما بي فاسألي
مقل الصباح فقد رعته جنينا
أو كنت لا تدرين ما فعل الجوى
فالحب يكبر حين لا تدرينا
يقرأها د. العربي متناولا جمالية هذا التعبير إن كانت تدري أو لا تدري،بأن القارئ توقع قاصمة تنهي القصة المبدوءة بالوداع،والمختومة بغير إنصاف،ثم يقول: «لماذا يُلقي الشاعر بكل ثقله ومواهبه ومواجعه وطاقاته دائماً في البيت الأخير؟ هل ظلّ يقاوم هذا المعنى طيلة الأبيات السابقة فلما عجز عن حمله رمى به هاهنا مبدعا موفقا؟».
وهي إضاءة جميلة،أكّدت لي رأيي في خواتم شعر د.الرشيد،أنه ممن يمكن تسميتهم شعراء المقاطع في الشعر السعودي الحديث،شأنه شأن عمر أبو ريشة مثلا،حين يأتي البيت الأخير مفاجئا،مدهشا،ونقطة انتهاء/ ابتداء قراءة مختلفة للنص نفسه.
وختاما،فإن هذا التنوع في قراءة النص يثريه ولا شك،تنوّع بين الذاتية والموضوعية،وبين القراءة المندفعة نحو النص أو المنصرفة عنه،وبين الجمالية والفنية،ثم يبقى لكل قارئ معناه الخاص الذي فهم به أبيات (نرجسة القلب)،في قراءة لها كيمياءُ مختلفةٌ كلَّ مرة،تنتتج بالتفاعل بين المؤلف والنص والقارئ،حسب كمية سُلطة كلّ منهم على تلك القراءة.