Saturday 15/11/2014 Issue 451 السبت 22 ,محرم 1436 العدد
15/11/2014

القرآن الكريم والنظرية النقدية الأدبية

«كما أن مستقبل الدراسات الإنسانية يخبيء لنا نظرية نصوصية سيظفر بها كاتب ما، ويصوغها بلسان عربي مبين، وستكون زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية، تستلهم بركتها من الشجرة القرآنية ونورها الخالد»... للناقد الدكتور/ عبدالله الغذامي، من كتابه ثقافة الأسئلة.

تطرقت في مقالة سابقة إلى تغريدة الدكتور الناقد عبدالله الغذامي التي قال فيها: «اسمحوا لي بدرس نقدي: قوة بيت المتنبي في شطره الأول والباقي ترهل لفظي (لولا المشقة ساد الناس كلهم - وكفى، ما زاد سيكون ترهلا وسفسفة»، تعليقا على بيت المتنبي:

«لولا المشقة ساد الناس كلهم

                                الجود يفقر والإقدام قتال»

وذكرت في تلك المقالة أن هناك عدة شروط للدرس النقدي منها؛ ضرورة وجود نظرية ينطلق منها الدرس وضرورة وجود تفاصيل تطبق عليها النظرية وضرورة وجود شارح (مدرس) للنظرية وللدرس ثم ضرورة تداول وانتشار الدرس فيما يحقق رسوخ النظرية وتطبيقاها.

وأن ما تطرق له الناقد الغذامي لم يستوف هذه الشروط وأننا في سعينا للبحث عن بذور للنظرية النقدية الأدبية يجب أن يكون لدينا نص محكم ذو خصائص بنائية محكمة يمكن استقراؤها واستنباط الخطوط العريضة للنظرية منها وأن يحتوي ذلك النص على تفاصيل كافية ووافية لتطبيق النظرية واستكمال دراستها، وأن يكون ذلك النص من الانتشار والذيوع والرسوخ ما يحفظ انتشار النظرية وتطبيقاتها وتداولها، وأن يكون لدينا قارئ خاص قادر على استنباط النظرية وشرحها من ذلك النص.

هذا النص الذي يستوفي على جميع الشروط المطلوبة هو القرآن الكريم وإننا إذا أردنا أن نستلهم بذورا لنظريتنا النقدية الأدبية من هذه الشجرة القرآنية فإننا يجب أن نبحث في الخصائص البنائية والبيانية للقرآن الكريم.

من هذه الخصائص البيانية ما يعرف بالمجمل والمفصل، وعلاقة هذه الخاصية بعلم الدلالة هي علاقة مهمة جدا عند الأصوليين ولكنني في هذه المقالة أريد توظيف هذه الخاصية توظيفاً نقدياً لدراسة بيت المتنبي بعيداً عن الإشكالات المطروحة في هذا الباب عند الأصوليين أو عند أهل الكلام.

يعرَف المجمل في اللغة بأنه: «المبهم من أجمل الأمر إذا أبهم، وقيل: هو المجموع، من أجمل الحساب إذا جمعه وجعله جملة واحدة، وقيل: هو المتحصل من أجمل الشيء إذا حصله، والجملة جماعة كل شيء بكماله» والمجمل عند الأصوليين يدور حول معنى الإبهام والخفاء، وعرفه ابن الحاحب بقوله: «المجمل هو ما لم تتضح دلالته»، وعرف ابن حزم الظاهري المجمل بقوله: «لفظ يقتضي تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر»، وخلاصة هذه التعريفات: «أن المجمل هو اللفظ الذي يحمل أكثر من معنى ويحتاج إلى لفظ آخر يفسره» كما قال ابن حزم الظاهري، ولذلك فإن كثرة المعاني في اللفظ قد تجعل المعنى المقصود مبهما في نظر القارئ وهنا يأتي دور اللفظ «المفصل» لتفصيل ما أجمل.

هناك أمثلة كثيرة مختلفة في القرآن على هذه الخاصية البيانية القرآنية من ذلك قول الله تعالى في سورة (المعارج) الآية 19:

{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}

فلفظ «هلوعا» يحمل أكثر من معنى وقد ورد لفظ الهلع في لسان العرب بمعنى الحرص الشديد أو الجزع أو قلة الصبر ولكن العبارة التالية له فصَلت هذا المجمل ببيان حالتين، حالة كيف يكون الإنسان هلوعًا حين يمسه الخير بكونه منوعًا لهذا الخير، وحالة كيف يكون الإنسان هلوعًا حين يمسه الشر بكونه جزوعًا لما أصابه، مع أن لفظ «هلوعا» من الناحية اللغوية والنفسية تحتمل كل حالات الهلع المختلفة التي يصاب بها الإنسان.

وبالقياس على ما ذكرت أعلاه فإن بيت المتنبي: «لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال» يعتبر مثالاً جيداً لشرح مسألة المجمل والمفصل من ناحية بيانية، إذ يحتوي على لفظ مجمل وهو لفظ «المشقة» ثم جاء المفصل في قوله الجود يفقر والاقدام قتال، وكما هو معروف فإن المشقة تحدث للإنسان في حالات كثيرة، فالمزارع يجد مشقة وأي مشقة في زراعة الأرض ورعايتها، والذي يحمل الأحمال يجد كذلك مشقة في عمله والأمثلة كثيرة ولكن هل هذه هي المشقة التي يقصدها الشاعر وهل ينتج عن هذه المشقة السيادة؟!

إن توظيف ظاهرة المجمل والمفصل في الدرس النقدي له أهمية كبيرة تظهر في أمرين:

1- أن المجمل في النص يحتاج إلى مفصل يأتي في أثره لبيان معناه.

2- أن المفصل يؤيد ويعزز المجمل أو قد يكشف عيوبه.

وهذان الأمران يجعلان للمفصل وظيفة نقدية مهمة، ذلك أن التقابل بين المجمل ومفصله يكشف عن الاتحاد بينهما أو التعارض والتناقض وهنا تتجلى وظيفة النقد الأدبي في تحديد بطلان أو صلاحية النص وتحديد عيوبه بشكل موضوعي محايد.

وإذا أخذنا بذلك في نقدنا للشطر الثاني من بيت المتنبي فإن المشقة التي تكون بها السيادة تحدث في حالتين حالة «الجود يفقر» وهي حالة بذل المال وحالة «الإقدام قتال» وهي حالة بذل النفس وليس هناك أشق على الإنسان من بذل المال أو النفس أو كليهما ولذلك فإن الشطر الثاني يكشف عن معنى المشقة التي تكون بها السيادة وهي مشقة متمثلة في بذل المال وبذل النفس وهنا تظهر الوحدة البيانية الموضوعية بين شطري البيت والترابط البياني بين المجمل ومفصله ويؤكد حاجة الشطر الأول إلى الشطر الثاني للوصول إلى المعنى المراد؛ وأن الأمر ليس كما يحسب الدكتور الغذامي من كون الشطر الثاني ما هو إلا ترهل وسفسفة، ولو أن بيت المتنبي جاء مثلا كالتالي:

لولا المشقة ساد الناس كلهم «الجهد يتعب والإجهاد قتال» لكان من حق دارس البيت أن يقول إن ما جاء في الشطر الثاني ما هو إلا ترهل لفظي لم يخدم المعنى في هذا البيت.

العجيب أننا إذا تجاوزنا معنى بيت المتنبي على مستوى آحاد الناس ونظرنا إلى الدول التي سادت العالم نجد أن الدول التي بذلت المال والنفس هي التي سادت في العالم وأقرب مثال معاصر لذلك هو الولايات الأمريكية المتحدة التي تبذل المال هنا وهناك وتجوب أساطيلها وجيوشها أنحاء العالم، في تأكيد لمعنى السيادة الذي أراده المتنبي في بيته الشهير.

والواقع أننا بقليل من التأمل سنكتشف أن خاصية المجمل والمفصل تكاد تكون ظاهرة بنائية وبيانية عامة تشمل كل شيء ؛ وإذا تطرقنا إلى ما ورد في تعريف المجمل لغوياً من أجمل الحساب إذا جمعه وجعله جملة واحدة؛ فإننا نرى، على سبيل المثال؛ أن ما يعرف بالفاتورة أو كشف الحساب يحتوي على رقم مجمل يمثل المجموع وأرقاماً أخرى فيها التفصيل، فإذا تعارض الرقم المجمل (المجموع) مع الأرقام المفصلة فذلك يشير إلى أخطاء أو عيوب تذهب بصلاحية ذلك الحساب وتؤكد بطلانه وهذا ما يقوم به المحاسبون في مراجعتهم وتدقيقهم للميزانيات المالية وهو دور يشبه إلى حد كبير دور الناقد الأدبي الذي يبحث عما يؤكد صلاحية النص أو بطلانه من ناحية نقدية بحتة، وهذا المثال يؤكد أن ظاهرة المجمل والمفصل هي ظاهرة بنائية نكاد نجدها في حالات كثيرة وهذا ما يجعل توظيفها مناسبا في دراسة النصوص الأدبية والفنية بمختلف أشكالها، خصوصا أننا في النظرية النقدية نحتاج إلى دراسة النص دراسة بنائية موضوعية محايدة.

من الأمثلة الأخرى على ظاهرة المجمل والمفصل البنائية ما نجده في الدراسات الهندسية الانشائية البنائية للمباني الانشائية، من بيوت أو سدود وغيرها، وما فيها من عيوب أو أخطاء أو ميزات لا تظهر في مجمل المبنى فقط بل يجب دراسة تفاصيل المباني على مستوى علاقة الوحدة (الإنشائية) الموضوعية لمجمل المبني مع المفصل، وبذلك يظهر الحكم على ذلك المبنى وما فيه من تماسك وثبات أو ما فيه من عيوب قد تقود إلى فشل المبنى وانهياره.

إن اللفظ (أو القول) المجمل في بناء النص يقوم بوظيفة محددة تظهر في قدرة ذلك القول المجمل على تكثيف المعنى للإمساك بتلابيب القارئ وجذبه نحو النص؛ ثم في تسليمه إلى القول المفصل الذي يقود القارئ بدوره في أفلاك محددة نحو المعنى المقصود من النص، ولذلك نجد في اللفظ أو القول المجمل من البلاغة ما يأسر القارئ ولعل هذا ما حدث للدكتور الغذامي حين وقع أسيرا لبلاغة الشطر الأول من بيت المتنبي وجعله يلغي ما في الشطر الثاني من بيانية رائعة لذلك القول المجمل البليغ في الشطر الأول.

إنني إذ استلهم ظاهرة المجمل والمفصل من القرآن الكريم في محاولة لتوظيفها في دراسة بيت المتنبي أريد أن أؤكد على أن هذه المحاولة هي لكي أشرح للقارئ الكريم كيف يمكن لنا أن نستفيد من الخصائص البنائية للقرآن الكريم (من كلمة بناء) والخصائص البيانية (من كلمة بيان) في استنباط قواعد عامة تفيد في بناء ما نحتاج من نظريات مختلفة خصوصًا في البحث عن النظرية النقدية أو النظرية البنائية البيانية اللغوية أو النظرية الأدبية بشكل عام إن صح التعبير.

وبعد، هذه بذرة بسيطة قد يتبعها بذور أخرى، وتحتاج إلى تربة خصبة صالحة وإلى صبر وروية من الكاتب والقارئ معا، نحو استزراع تلك الشجرة الزيتونة المباركة التي هي لا شرقية ولا غربية، والتي تستلهم بركتها من الشجرة القرآنية ونورها الخالد، إن شاء الله.

والله تعالى أعلم.

- الرياض