نعود الآن إلى كتابه الذي نحن بصدده، فقد ظهر كتابه (مقال في المنهج) في البداية على أنه لمؤلف مجهول؛ لأن ديكارت كان حذرًا فأراد بهذا التخفي عن رقابة الكنيسة، وأضاف لتخفيه، أنه استخدم اللغة الفرنسية لتأليف كتابه، زيادة في الحيطة؛ لأن رقباء الكنيسة لم يكونوا يعلمون إلا بالكتب التي تؤلف بلغة العلم في ذلك العصر، وهي اللغة اللاتينية.
ويقصد بالمنهج، مدخل جديد لمعرفة العالم والإنسان، من خلال الاستدلال العقلاني، ومن ذلك الاستدلال بالعقل على وجود الله والنظام الإلهي بأسلوب حديث مبتكر، يختلف تمامًا عن أسلوب التفكير اللاهوتي المسيحي في القرون الوسطى.
وهناك ملخص سريع ظهر لي ببساطة من تأمل منهج ديكارت، أرى أنه يناسب هنا كمدخل موجز قبل التعمّق، وهو أن ديكارت مرّ بسلسلة من الاستدلالات الإيمانية العقلية المترابطة الجميلة في الحقيقة، فهو بعد أن استدل بالفكر على وجود النفس، من خلال منهجه (أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود) استمرَّ فاستدلَّ بوجود النفس على وجود الله، ثم استدل منطقيًا أيضًا بوجود الله على وجود العالم.
قال ديكارت في بداية هذا الكتاب: «إن ما أقصده هنا ليس تعليم المنهج، الذي يجب أن يتبعه كل إنسان لتوجيه عقله بطريقة سليمة، وإنما أقصد فقط أن أبيّن كيف حاولتُ أن أوجه عقلي أنا». وهذا فعلا ما قام به، فقد كان يشرح للقارئ منهجه، وماهيته، وكيف ولماذا وصل إليه.
لقد وضع ديكارت لتوجيه عقله منهجًا جميلا، أرى أن فكرة وضعه من أساسها تدخل في (السهل الممتنع)، فهو جميل وسلس وسهل وواضح ومنطقي وناضج ومتوازن جدًا؛ ولكن إيجاده بهذا الشكل إبداع ممتنع، لا يستطيعه إلا أمثاله من النوادر النوابغ الكبار.
وقبل أن نتعمق في أقسام كتابه الشهير (مقال في المنهج) يحسن بنا أن نشير إلى أن هذا الكتاب –كغيره من مؤلفات ديكارت- أظهر للدارسين والباحثين والمهتمين أن فلسفة ديكارت كانت ثنائية إن صح الوصف، فقد أسهب وأطال في التفريق بين الواقعين المادي والروحي، كما أشرنا في الجزء السابق؛ بالإضافة إلى أن السمة الطاغية على نتاجه كانت ترتبط بالعقل، فهو دائما يؤكد على أهمية الالتزام بالعقل قبل أيّ شيء، فوضوح الفكرة أمام العقل هو المعيار لقبولها والتمييز بين الصحيح والخاطئ من الأفكار، بغض النظر عن كل العوامل والمؤثرات الأخرى، وهذا ما جعل كتاباته الرائدة تُبعد الناس عن اعتبار الكتب القديمة والمراجع الكهنوتية وتعاليم السلطة الكنسية مصادر موثوقة للحقائق.
ومن هذه البوابة نستطيع الدخول لكتبه عامة ولكتابه هذا خاصة، أعني بوابة منهج التشكيك، الذي يرفع الشك إلى منزلة عالية، بوصفه نوعًا مميزاً من أرقى أنواع التفكير، فقد اقتنع ديكارت بمنهجه هذا بوصفه السبيل السليم نحو اليقين، وهذا المنهج هو ما يسميه البعض «مذهب الشك المنهجي» الذي عرف به ديكارت، وظهر بوضوح في كتابه هذا وفي غيره من مؤلفاته.
وهناك نقطة تجدر الإشارة إليها وهي أن بعض المهتمين بالفلسفة، يؤكدون على وجود تشابه بيّنٍ بيْنَ بعض أفكار ديكارت وبعض أفكار العرب والمسلمين قديمًا، كتشابه بعض ما ورد في هذا الكتاب الذي نحن بصدده «مقال عن المنهج»، مع بعض ما ورد في كتاب أبي حامد الغزالي «المنقذ من الضلال» ولأن أبا حامد هو السابق لديكارت، فقد اتهموا الأخير بالسرقة أو الاقتباس دون الإشارة للمصدر.
ومن ذلك أيضًا ورود بعض مقولات ديكارت بصياغات مقاربة لها في كتب فلاسفتنا الأوائل، كورود مقولات مماثلة لمقولة ديكارت الشهيرة (أنا أفكر إذن أنا موجود) على لسان ابن سينا في بعض كتبه، حيث أورد ابن سينا كلامًا قريبًا من مقولة ديكارت، ورفضه ونقضه وفنّده بحجج يراها قوية!.
والحقيقة أن هذا الاتهام خطير، ويتطلب الكثير من التمحيص والتدقيق بتجرّد وحياد، وقد بذلتُ في هذا الشأن جهدًا يسيرًا أثناء كتابة هذه المقالات، فخرجتُ بنتيجة مبدئية هي أن هناك بعض الشبه والتقارب، كالتقارب الحاصل -مثلا- بين الملامح العامة لمنهج ديكارت الفلسفي، والملامح العامة لمنهج أبي حامد؛ ومن ذلك اشتراكهما مثلا في أفكار رئيسية، كفكرة الشك بوصفه سبيلا قويما أمثل لبلوغ المعارف اليقينية، والوصول إلى الحقائق الجليّة، وغير ذلك من الاشتراكات الموجودة التي يطول شرحها.
ولكني لم أقتنع، ولم يثبت لي -من خلال بحثي المتواضع- وجود تطابق كامل أو سرقات ظاهرة أو نقل مباشر كما يدّعي البعض، رغم ثبوت شيء من الشبه والتقارب عندي بلا شك؛ ولكنها –حتى اللحظة- لا تعدو أن تكون من باب توارد الأفكار وتوافق الخواطر.
وكم ستكون فرحتي غامرة إذا ثبتَ ذلك؛ أي إذا ثبت أن مصادر بعض أفكار ديكارت أو غيره من فلاسفة الغرب الكبار عربية أو شرقية.. هذا ليس تعصبًا، فمن الطبيعي -في نظري- شعور الإنسان بالاعتزاز إذا ثبت أن بني قومه أو القريبين منهم سبقوا غيرهم من الأباعد إلى إبداعات كبيرة في أي مجال من مجالات هذه الحياة.. ولي سابق تجربة مع موضوع مقارب، حيث فرحتُ جدًا، حين انتهيتُ من بحث مسألة (الأسبقية إلى الفلسفة) بين فلاسفة الشرق وفلاسفة الإغريق، حيث ظهرتْ لي دلائل كثيرة ترجح أسبقيتنا نحن المشارقة إلى الفلسفة في بداياتها الأولى، وفق نظرة معينة سأنشرُ مقالا عنها قريبًا هنا في الثقافية.
ولكن صدمتي ستكون عنيفة أيضًا، إذا ثبتَ –وهذا مستبعد- أن هذا الفيلسوف الكبير -الذي أعجبتُ وتأثرتُ بكثير من كتابته- ليس إلا سارقًا ذاع صيته من خلال منقولات من فلاسفة ومفكرين آخرين، سواء كانوا عربًا أو عجمًا. وأضفتُ «عجمًا» لوجود اتهامات أخرى أن ديكارت سرق أو نقل من أفكار غير العرب أيضًا.
ولابد -للأمانة والموضوعية- أن أذكر أن هناك مِن المهتمين بهذا الموضوع من العرب، مَن يؤكد على قصة مريبة غريبة، وهي أن أحد الباحثين العرب تم اغتياله، حين استطاع -حسب زعمهم- الحصول أو الوصول إلى نسخة من كتاب أبي حامد السالف الذكر مترجمة إلى اللاتينية، حيث وجدها في السبعينيات -بمساعدة أحد أصدقائه المتنفذين- في المكتبة الوطنية بباريس، ضمن مقتنيات ديكارت الشخصية، وعليها تعليقات بخط يد ديكارت، يُفهم منها إعجابه ببعض أفكار الغزالي، وعزمه على نقلها إلى مؤلفاته!.
ولا أستسيغ في الحقيقة أن يتأثر أبو الفلسفة ديكارت العقلاني، بخصم الفلسفة الغزالي، الذي بذل كل ما بوسعه في سبيل تحجيم مكانة الفلسفة وتقويض أسسها، وبالتالي ساهم بقوة في تقهقر النزعة العقلانية في العالم العربي، سواء في كتابه (تهافت الفلاسفة) أو في غيره من مؤلفاته.
المهم الآن هو أن ديكارت قسَّمَ الكتاب إلى ستة أقسام عظيمة رائعة، ولكنها تفتقر إلى التنظيم كما يقول كثير من النقاد، حيث يصف في القسم الأول نشأته الفكرية وحيرته وبحثه عن اليقين، ويبرر في هذا القسم إعراضه عن الطريقة غير المرضية في كيفية تدريس العلم في المدارس والجامعات في عصره، ويتفق مع مونتانيي في أن نقطة الانطلاق لأي بحث توجد في العقل.. ومن هنا يُوجب ديكارت على كلِّ باحثٍ أن يلجأ إلى قدرته الذاتية على الحكم، وأن يبتعد عن التقليد والتبعيّة، وألا يعتمد على المرجعيات والمألوفات فقط، إذا كان يبحث عن معرفة حقيقية.
ويؤكد في هذا القسم أيضًا على نقطة جوهرية، هي أننا لن نظفر بالمبادئ المطلوبة للمعرفة اليقينية من خلال التأمل النظري دون خلفية تجريبية، ولا بالتجريب وحده دون تأمل نظري.
كما أكدَّ أيضًا على حقيقة هامة، وهي أن كل العلوم والمواد التعليمية لا ترتكز على أسس قطعية مؤكدة 100%، باستثناء الرياضيات ومعادلاتها وحساباتها العددية فقط، فقد وجد في الرياضيات وحدها –بتجربته الخاصة- الحجج اليقينية المؤكدة الواضحة.
ثم يقدّم في القسم الثاني المميز الرائع الماتع القواعد الأربع الأساسية لمنهجه، والتي أسميتها أنا كمحب للفلسفة: «القواعد الذهبية الأربع»، لأنها ذهبية فعلا، وجديرة بتأمل كلِّ متخصص في الفلسفة أو مهتم بها.
تستوجب القاعدة الأولى من قواعده الأساسية، ألا يُقبَل أيُّ شيء، لا يعرف الإنسان -بطريقة واضحة تمامًا- أنه حقيقي. والعقل والتفكير وحدهما هما القادران -في رأيه- على إصدار الحكم على جميع الأشياء من هذه الناحية، أما إدراكات الحواس وحدها، فإنها تخضع للتضليلات، ولا يمكن أن تؤدي إلى قطعيات مؤكدة لا شك فيها، ومن هذه القاعدة الأولى، ينتج لدى ديكارت أن الشك أو الارتياب هو المحرك الأساسي للمعرفة.
ونكمل بقية القواعد، ثم بقية أقسام الكتاب، في الجزء القادم الأخير إن شاءت الأقدار.