لم تكن الصلة بين النقد وعلم النفس وليدة هذا العصر، بل وجدت منذ زمن (أفلاطون) و(أرسطو) في العهد اليوناني، واستمرت عند من تبعهم من أصحاب الاتجاهين: المثالي والواقعي، وبرزت هذه الصلة عند (فرويد) زعيم مدرسة التحليل النفسي الذي حلل شخصية الروائي (ديستوفسكي) من خلال روايته (الإخوة كرامازوف)، والفنان (ليوناردو دافنشي) من خلال أعماله الفنية.
وقد تتابع بعده رواد التحليل النفسي، وتكاثر علماء النفس في هذا المجال، فظهر (بودوان) و(مورون) اللذان طوَّرا من هذه الصلة، وجعلا التحليل يخرج من العيادات الطبية، ليكون شرحاً للعمل الأدبي، وتقويماً له من خلال الحقائق النفسية، حيث درس (مورون) شخصية (راسين) في مسرحياته، ومركب (أوديب)، وجعل منهج النقد النفسي يقوم على ثلاث دعامات: شخصية الأديب وتاريخها، والوسط الاجتماعي وتاريخه، واللغة وتاريخها. ولم يكن هذا الاهتمام مقصوراً على علماء النفس، بل تجاوزه إلى غيرهم، فهذا (سانت بيف) يدرس حياة الأديب بلا وقوف عند الحدود النفسية للشخصية، وإنما يتجاوزها إلى السيرة الذاتية.
أما على مستوى النقد العربي فقد اتضحت بعض لمحات هذا المنهج عند (ابن قتيبة) في (الشعر والشعراء) حين تحدث عن الظروف النفسية المساعدة على قرض الشعر، وكذلك عند (عبدالقاهر الجرجاني) في كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، والقاضي الجرجاني في (الوساطة بين المتنبي وخصومه).
وقد أكمل المحدثون العرب هذا الطريق، فظهرت جماعة الديوان (عبدالرحمن شكري) وتبعه (عبدالقادر المازني) الذي درس شخصية (ابن الرومي) نفسياً، ثم تبعه (عباس العقاد) الذي درس الشاعر نفسه إضافة إلى شخصية (أبي نواس)، ومثله فعل (محمد النويهي)، كما لم يفت (طه حسين) أن يكون له نصيب في هذا الميدان، فوجدت لديه ملحوظات متناثرة في دراسته للمتنبي والمعري.
ومن الكتب التي طالعتها مؤخراً في هذا السياق كتاب (المدخل إلى نظرية النقد النفسي: سيكولوجية الصورة الشعرية في نقد العقاد «أنموذجا») لزين الدين المختاري الذي جعل هذه النظرية قائمة على ثلاثة محاور: دراسة شخصية الشاعر، ودراسة عملية الإبداع، ودراسة العمل الأدبي، وحاول أن يكشف عن الكيفية التي تمكن من خلالها العقاد من دراسة الشخصيات نفسياً من أطيافٍ مختلفةٍ إضافة إلى سيرته الذاتية، معتمداً في هذه الدراسة على عدد من المقومات؛ منها:
1- رسم الصورة النفسية المتكئة على ظروف العصر والبيئة وغير ذلك، والصورة الجسدية منطلقاً من الوصف الخارجي للبنية الجسدية.
2- استنباط مفتاح الشخصية، مثل مفتاح شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه (طبيعة الجندي) ويمثل عند العقاد المحور.
3- الاعتماد في الدراسة على المنحى (السيكو/فني): نفسي جسدي، والمنحى (السيكو/سوماتي): نفسي جسدي.
ويؤكد المؤلف على أن السمة الغالبة على دراسات العقاد (سمة التفرد)؛ لإيمانه بالوعي الفردي الذي هو أساس النظرية الرومانسية، أحد خصائص النقد النفسي، ثم ينتقل المؤلف إلى تحليل دراسة النويهي ليخرج بأساسين: تنفيس الفنان عن عاطفته وتوصيلها إلى الناس، وأنَّ الأدب صورة نفسية لشخصية الشاعر. ويستمر المؤلف في تحليل دراسات النقاد العرب في هذا الجانب حتى يصل إلى (محمد كامل حسين) في دراسته للمتنبي والمعري، و(حامد عبدالقادر) في دراسته للمعري.
أما الفصل الثالث من الكتاب فقد درس فيه المؤلف عملية الإبداع، وتتبع خطواتها، متخذاً من دراسة (مصطفى سويف) (الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة) أنموذجا لذلك، مؤكداً على أنَّ هذا الكتاب أحسن ما كُتب في هذا المجال لقيام مؤلفه بتجربةٍ ميدانيةٍ استجوب فيها بعض الشعراء، وأفاد من مسوَّداتهم لمعرفة كيف تتم عملية الإبداع، وفي الفصل الرابع يتتبع بعض الدراسات النفسية الأولى في هذا المجال: لـ(محمد خلف الله)، و(حامد عبدالقادر)، و(عز الدين إسماعيل)، مُقدِّماً تصوراً عمَّا كتبه كل واحد منهم، بينما يخصص الفصل الخامس بسيكولوجية الصورة الشعرية في نقد العقاد بوصفه أنموذجا يتتبعه، ويطبق عليه ما قرأه.
يقول الناشر عن هذا الكتاب إنه عبارة عن دراسة نقدية من وجهة نظر علم النفس، يعرِّف مؤلفها فيها بجهود علماء النفس: (فرويد) و(أدلر) و(يونغ) و(شارل بودوان) و(شارل مورون) و(سان بيف)، ويعرض لآرائهم بإيجاز، ويناقشها بموضوعية، ويوضح ماله علاقة بالأدب والنقد، وفيها دراسة سيكولوجية لشخصية الشاعر (ابن الرومي).