والسؤال الذي يظهر هنا هو أنه إذا كانت العلاقة بين النحو والمنطق وطيدة إلى حد التداخل كما في العرض السابق، لم وقف العلماء القدماء من المنطق موقفاً سلبياً يصل إلى حد التحريم، في حين وقفوا من النحو موقفاً إيجابياً يصل إلى حد الوجوب في الأهمية حتى أصبح لا يصح علم المجتهد إلا به كما ذكر أبو حامد الغزالي في المستصفى، وذلك أنه عده في العقل، وقد تواترت الأقوال في الثناء على أهمية العربية ووجوب تعلمها وهم يقصدون بذلك علم النحو، في الوقت الذي جاءت فيه الأقوال بذم المنطق، وذم أهله بل تحريمه لدى بعضهم كما ذكر السيوطي. وليس عند المتأخرين من أمثال ابن تيمية والسيوطي بل عند المتقدمين من أمثال الشافعي، والإمام أحمد وسواهم من الأئمة.
يمكن أن نجد الجواب على هذا السؤال في تضاعيف حديث السيرافي حين تحدث إلى متى بن يونس واصفا النحو والمنطق، فالنحو يتصل بلغة العرب، وهو معبر عن خواطرهم وما تكن به نفوسهم، كما أنه مستنبط من لغتهم، ولذا فهو متوافق مع أفهامهم ودليل عليها، وهو يعبر عن لغة العرب كما أن لغة العرب تعبر عنه أدق تعبير. في حين أن منطق اليونان مستنبط من لغتهم، ومعبر عنها، ومتوافق مع أفهامها ورؤاها للأشياء، ولغة يونان تختلف عن لغة العرب. يقول السيرافي:
«إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضيا وحكما عليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكروه رفضوه».
ويقول في موضع آخر: «وأنت لو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان».
ومثل ذلك ما ينسب إلى الشافعي من أن يقول: «وتخريج ما ورد فيها على لسان يونان ومنطق أرسطا طاليس الذي هو في حيز ولسان العرب في حيز، ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال لا على مصطلح يونان، ولكل قوم لغة واصطلاح».
ومن هنا فإن الموقف المتباين من النحو والمنطق لايخلو من الاعتماد على لعبة الأنا والآخر، فالنحو من إنشاء العرب، ويتصل بهم في حين أن المنطق يعبر عن اليونان ولغتهم وعلومهم. وبما أنه يتصل باليونان وثقافتهم، فهو لهم ولا يمت إلينا بصلة ولسنا بحاجة لشيء من هذا القبيل ما دام لدينا النحو الذي يكفي بهذا السبيل، وقد جاء فيما ورد من مقتطفات ما يفيد هذا المعنى.
ونحن نجد في التراث العربي صورة أخرى من الخصومة بين مكونات الشخصية العربية والأمم الأخرى، والتي تتمثل بما كتبه الجاحظ من مناظرة بين صاحب الكلب وصاحب الديك، كان الجاحظ ينتصر فيها لصاحب الكلب، وما كانا سوى رمز للعربي والفارسي، وهذه المنظرة بينهما لبيان قيمة ثقافة كل واحد منهم، وتقدمها على صاحبتها. وهي صورة من الصراع الحضاري الموجود في التاريخ العربي بين العرب والأمم الأخرى من مكونات تلك الحضارة، والتي يمثل الصراع بين النحو والمنطق صورة أخرى منه ولكن بين العرب واليونان، وإذا كانت بالنسبة للعلاقة بالفرس واضحة بناء على ظهور مكوناتها، وبناء على أن الفرس بوصفهم أمة كانوا جزءا من الدولة الإسلامية والعربية يسهمون في تكوينها، وقد نشروا عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم فيها، فإن الأمر بالنسبة لليونان قد اختلف إذ لم يبق منها إلا هذه المكونات العلمية التي ظلت حاضرة في كل الحضارات اللاحقة مع تطاول الأيام وتقدم السنين.
على أن رؤية القدماء للنحو كما سبقت الإشارة إليه وكما هو في قول الغزالي، تلك الرؤية التي توسع وظيفته من أن يكون معنياً بالألفاظ وتراكيب الجمل إلى أن يكون شاملاً لبيان المعاني، ولإيضاح الأفهام، تميل إلى أن النحو لم يكن لغة وحسب ولكنه منهج في التفكير والفهم، كما يعني الوقوف على النحو بوصفه هو العقل العربي إذ إنها تقدم الأدوات التي يمكن من خلالها فهم الكلام وتقليبه على وجوهه المختلفة للبحث عن المعاني المحتملة في النص المطروح، وهو ما يسمى بالوجوه الإعرابية، وبناء على أن الإعراب وليد المعنى كما يقال فإن ما لا يمكن إعراباً لا يمكن معنى والعكس كذلك. وهو ما يعني أن هذا النحو هو الوسيلة للبحث في العقل، وهو الوسيلة لتصور الفهم فيه، وهو الوسيلة لترتيب الكلام ترتيباً معقولاً مفهوماً مقبولاً ما دامت هذه المواقع الإعرابية مربوطة بالمعاني المعقولة والمتصورة بالأذهان، ومادامت هذه المعاني المتصورة مربوطة بالمواقع الإعرابية. وهو ما يعني أن المعاني قد تحددت بناء على هذه المواقع، وأصبحت محصورة محدودة، معروفة سلفاً. ومن هنا جاء تفسير الشوكاني الجامع بين فني الرواية والدراية، وحين ننظر في الدراية لا نجدها سوى البحث في مواقع الكلمات الإعرابية وتفسيرها تفسيرا نحويا أو البحث في معاني الكلمات بحثا معجميا. وهذا ما أكده الشاطبي بقوله عن النحو: «وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به حنى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني».