تصريح فلور بليران وزيرة الثقافة الفرنسية انها منذ تاريخ استلامها حقيبة وزارة الثقافة، باتت تقرأ أقل، أغضب الصحافة الفرنسية واستفز معظم المثقفين في فرنسا لأنه سابقة في تاريخ فرنسا الحديث. جواب الوزيرة كان جزءا من طامة أكبر الا وهي اعترافها في الوقت عينه انها لم تقرأ أي رواية للكاتب الفرنسي باتريك موديانو الذي حاز على جائزة نوبل للآداب هذا العام، حتى إنها لم تتذكر أياً من عناوين كتبه التي تجاوزت الثلاثين.
الكاتب الحائز على أهم جائزة عالمية والملقب ب «بروست الحديث» قد لا يعنيه ما قالته الوزيرة ولا ما قاله طاهر بن جلون اعتراضا على كلامها، ولا ما قاله مدير اكاديمية غونكور برنار بيفو الذي أراد ترطيب أجواء النقاش. موديانو منشغل بمحاولة الحد من تأثير هذه الجائزة على حياته التي تغيرت فجأة منذ عشية 9 تشرين الاول 2014. هذا الكاتب الذي يشبه شخصياته الخافتة المشغولة بجغرافية الغياب والوحدة، والذي لم تخرج أمكنة رواياته من مدينته باريس، فاجأ الكثيرين بحصوله على الجائزة.
منح الجائزة لكاتب مثل مودياني هو حقيقي، أما الأمر الذي يصعب تصديقه، هو نوعية الطاقم السياسي الذي يحكم بلدا نشر الادب والابداع في العالم مثل فرنسا. لقد تحولت الثقافة من شاغل أول تُعنى به الحكومات الفرنسية المتعاقبة الى موضوع لا يعني الكثير للسلطة السياسية، بل الى همّ يُثقل كاهل الخزينة. غدت حقيبة الثقافة جائزة ترضية للمقرّبين من رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية دون النظر الى الكفاءة الثقافية. ما زالت فرنسا فرنسوا ميتران حية في الذاكرة،شهدت الثقافة خلال رئاسته ثراء وانفتاحا على العالم وتحديدا على العالم الثالث. لم تعد فرنسا هي البلد الاول في صناعة الفن والادب بل ورثتها في اوروبا جارتها المانيا الصامدة امام التراجع «الأبوكاليبتي» الذي اصاب بلدانا مثل اليونان واسبانيا وحتى ايطاليا. إضافة الى أن الجامعات الاميركية باتت مصدر النظريات الجديدة في العلوم الإنسانية حيث تنازلت لها اوروبا منذ السبعينيات عن هذا الدور. رغم ذلك ما زال وهم أنّ فرنسا هي الأولى في انتاج الأدب والفن يستبد بنا، ونحن نميل الى تصديقه رغم أن الأكثرية تعلم ان المسألة باتت تحتاج الى نقاش وبالعمق أيضاً.
هذا النقاش لم يصل فرنسا بعد. لكنه بدأ في الاوساط الانغلوسكسونية، أي في بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية. مقال لافت للكاتب الاميركي آدم غوبنيك* والذي عاش في باريس لأكثر من خمس سنوات، نُشر في مجلة البي بي سي، بعد اعلان جائزة نوبل لهذا العام، وصف فيه المشهد الثقافي الفرنسي. كتب جوبنيك : «قد يكون باتريك موديانو كاتبا كبيرا الا انني وللأسف لم أستطع أن أنهي ايا من كتبه. فرنسا تصنع قامات أدبية هائلة لكن قلّما تصنع رواية نستطيع قراءتها حتى النهاية. الشعب الفرنسي مغرم بقراءة الأدب وبصورة أن بلاده تسوّق لفكرة الأدب، لكن قلة منهم يكتب أدباً جيدا.»
كلام الكاتب الاميركي الذي يشارك أيضا بمقالات نقدية في النيويوركر، يعكس موقفا عاما لجهات ثقافية عدة في العالم والتي تتساءل عن المعايير التي باتت الاكاديمية السويدية تتبعها لاختيار الفائزين. لكن مع جائزة نوبل سيكون من الصعب على الفرنسيين قبول الصورة التي بدأ الغرب الانغلوساكسوني يرى عاصمة النور بها. سيمضي وقت طويل قبل أن يبدأ الفرنسيون التساؤل حول مكانة بلادهم في المشهد الأدبي العالمي.
** ** **
*Adam Gopnik, A Point of View: Why are our obsessions never the things we’are best at?
BBC Magazine 19 October 2014