ينبتُ هنا – سؤال، حاولت أن يمرُ مرور الكرام، فحواه عن البيئات المجتمعية الحاضنة للفنون، فالشعر سيد الفنون لا يحضر في كل مكان وزمان، والفنون تنتعش وتزدهر في بيئات ثقافية محددة، وتتسع في هذا الوطن الشاسع بيئات الشعر المتنوع وتعاطيه، وإذا كنت لن أنسى ما حييت أن الناس في اليمن، حفظت ورددت قصائد (سيد البيد) شاعرنا الراحل الكبير محمد الثبيتي، فتسمع مقاطع من قصائده في أفواه الناس بالأمسيات الثقافية والممرات، فلن أنسى القول بأن الأجناس الأدبية لها بيئات تحيا فيها، وتزدهر، تتداول الفنون زمان الحضور والمكان ومنها الشعر، وتظل مناطق جازان والإحساء في بلادنا على وجه الخصوص، بيئات شعرية لجنس أدبي يُلقى، ولا بد له من متلقٍ ليسمع ويتفاعل معه، وتجد الأمسيات الشعرية في هاتين المنطقتين لها حضور يفوق حضور أي جمهور للشعر في منطقة أخرى.
صديقي الحميم الروائي والناقد علي الشدوي، التقط من سؤالي عن مردود مهرجان شعري، يقام في بيئة ناسها تقدس (العرضة) كموروث شعبي، وتحتفي به أكثر من أي جنس أدبي أخر، بما في ذلكـ الشعر الفصيح، وتحتفي حتماً بالشعر الشعبي، ستجد عدد الشعراء على المنبر أكثر من عدد الحضور في القاعة ؟، وفهم السؤال المرادف لتوقيت مهرجان الشعر في نادي الباحة الأدبي، ولم يعجبه سؤالي وبعث لي برسالة لها دلالاتها، تقول:
- حبيبي أ- أحمد - الشعر(الرفيع) لم يكن يوما ما شعبيا إلا إذا كان مؤدلجا (سياسي، ديني إلخ) وأكاد أجزم أن لا أحد كان يستمع إلى المتنبي إلا سيف الدولة وابن خالويه وابن جني (إن بقيت ذاكرتي وفية لسيرة هذين النحويّين الرائعين) ومع هؤلاء الحاشية بداعي (البرستيج). الشاعر ليس مطالبا بأن يكون جماهيريا وكذلك الشعر، وملتقى كهذا فيما أرى هو ملء للفراغ للعام وإشغاله، بدلا من أن تستولي عليه تيارات أخر، لا يمكن لشاعر أن يكون مناضلا إنما شاعر وشاعر فقط، وثقافة تقوم على النضال لن تنتج إلا شعراء مناضلين فقط، ولقد بيّن لنا عبد الله العروي ولأول مرة نتائج تصور كهذا، فنحن من نكسة إلى أخرى (من جرف لدحديرا)، الشاعر ومعه كل المثقفين مطالبون بأن يملؤوا فراغ المجتمع العام، الشاعر « الحقيقي « وكذلك الشعر لا يبحث عن مريدين. شخصيا أبارك لنادي الباحة هذا النشاط، ولو (كان لي مزاج) سأحضر من غير دعوة، وإذا ما كان هناك عرضة، فسأعرض وسأغني حتى يسمعني جبل شدا.
رائع جداً أن يعيدني الحميم جداً الصديق على الشدوي إلى قمم جبال السرأة، موطئ خطوات الشنفرى لنشكل كالعادة ثنائيا، ونعرض بنشوة في غابات رغدان الجميلة، ونغسل هموم الذات في حضرة كوكبة من رموز الكلمة الشعرية في بلادنا، كالشعراء علي بافقيه، ومحمد حبيبي، وجاسم الصحيح، وعبد الله الصيخان، وأسماء الزهراني، ومحمد الدميني، وعبد المحسن حليت، ونقتسم الفرح في ظل شجرة الشعر الباسقة أستاذنا على الدميني، والتعرف إلى أسماء جديدة من ضيوف المهرجان من خارج الوطن، تسربُ أصواتها من فوق قمم السراة لتبحث عن صدى لها، ونسعى مع الأصدقاء في نادي الباحة الأدبي الذين أقدر مسعاهم ونشاطهم لنعكس واقعاً ثقافياً مبهجاً، وبالتأكيد سيبادلهم فرسان الأمسيات الذين سيتوالون على المنبر بأعداد كبيرة، والتنافس على تقديم ما يشفع لهم البروز، وليس مجرد ملْ الفراغ، وتردد السائد من الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وبحجة الخوف من حضور تيارات أخرى يخشى حضورها، وكأن الشعراء الذين سيحضرون لا يمثلون كل التيارات. ؟
الشاعر إذا كان المطلوب منه يا صديقي، ملء الفراغ فلا قيمة له ولا لحضوره، فالشعر الفصيح (الرفيع) الذي نبتغيه، يلقى كجنس أدبي له خصوصيته، ولا بد له من متلقٍ، هذا المتلقي المستهدف غير موجود في بيئة الباحة الثقافية، نظراً لسيادة الشعر الشعبي في بيئة تحتفي بفلكلورها وموروثها الشعبي، وهذا لا يقلل من جهود الأصدقاء في نادي الباحة واجتهادهم، فالشعر غير الرواية كأجناس أدبية والدراسات النقدية، وجازان والأحساء كبيئات ثقافية غير الباحة، تماماً كما هو النشاط الثقافي والأجناس الأدبية الحية في عواصم العالم، ولن أذكركأننا على سبيل المثال، نفتقر إلى جنس فنون أخرى كالمسارح والسينما، ونعجز أن نكون لها بيئات ثقافية حتى لو أرادت المؤسسة الثقافية ذلك، فأن ينجح نشاط في منطقة وبيئة ثقافية، فليس من الضروري أن ينجح في مكان وبيئة أخرى ياحبة قلبي! ولست أعرف لماذا كلما هزتني بيئات الشعر، تذكرت الأصدقاء الشاعر محمد الثبيتي رحمه الله، والقاص الصديق فهد الخليوي، فقد كنا في وفد ثقافي سعودي يزور اليمن، كنا ثلاثيا فرقت بيننا الأمسيات الثقافية دون رغبة منا، ابتزنا أبو سليمان من البداية، وذهب مباشرة إلى عدن ليقرأ قصصه، وكان بي وبالثبيتي مثل ما به من شوقٍ، حنين يتسرب إلى عدن المدينة التاريخية والثقافية والاقتصادية والسياسية أيضاً..
كنا نريد أن نقرأ التحولات، ونجوب شرايين هذه المدينة العتيقة بحرية، ولم يكن ممكناً وميسراً لنا في برنامج ثقافي، كنا ضيوفاً عليه ويا غريب كن أديب، وذهبت برفقة أبي يوسف وبعض الأصدقاء، نتجول بين مدن الجنوب من المكلأ إلى وادي دوعن وقراه الجميلة، رأينا ناطحات السحاب في شبام وشبوه، ودفء الصوفية في ناسها ومكتباتها ومساجدها، لمسنا ضجر الناس ومقتهم في الأيام الأخيرة لبقاء صالح في الحكم، وتنبأنا بحدوث الثورة بعد ما رأينا حجم النهب والفساد، والرفض الذي كانت الناس تجاهر به. وظلت علينا عدن عصية، ظلت نهباً لذاكرة لم تصلها، تاريخ صراع غامض من الدم والحب والحرية، مدينة التنوع والانفتاح التي فتحت أبواب مينائها للغرباء، ورضيت بعشرة رامبو الشاعر الفرنسي، وكادت لفرط تمردها تقيم له تمثالاً، وقد تحول من شاعر مبدع إلى تاجر للبن اليمني والرقيق، وحج إليها طوابير من الشعراء والمثقفين العرب، وقد دفنت فيها أحلامهم السرمدية، وتفرقوا بعدما وجدوا فيها خلوةً قصيرة، وقيل إن الشاعر العراقي سعدي يوسف، تمنى كغيره أن يقنع علي ناصر محمد بألا يعدّم عبد الفتاح إسماعيل، وهي ذات الكيمياء الثقافية هي التي دفعت بالرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، ليتجاوز ذنوب المبدع الفرنسي المتمرد جان جونيه ويخرجه من السجن، وقيل بأن قصيدة سعدي (صديق قديم) كانت موجهة إلى عبد الفتاح:
للمرة الأولى
أكون مع رئيس دولة
حول طاولة تتقدم إليها الأشجار
وكائنات البحر
ووشيج القطرة بالنبتة المخمرة
للمرة الأولى
يكون لي صديق
في أربع ساعات
*عدن 13 / 2 / 1981 م
لقطة أخيرة : أحدهم (عكوز بكوز في كل مكان مركوز) في المناسبات الثقافية، ليثبت فاعليته وأهميته مع أن ليس له أثر أدبي يُذكر ليذكر، أحد الخبثاء علق قائلا : لا عليك منه فحبيبنا صار (فريان) الثقافة!