عندما أقول: ثمة شروط هي التي تحوِّل «المصطلح إلى دين» فهنا نحن أمام شرطية «القوة والتأثير».
فكل تأثير لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال قوة؛ القوة التي تؤسس لكل معتقِد استطاعته في تشكيل إرادة المدى الانفعالي والفعلي الموجِهين.
ولكن في هذا السياق علينا ألا نغفل عن إشارة مهمة وهي أن القوة المحركة للتأثير لا بد أن تتماثل مع القوة الكامنة داخل المعتقِد لتحقيق فاعلية تجاذب القوى المتشابهة، بحيث تصبح ردة الفعل مساوية لضغط الفعل، ومن هنا تتأسس فكرة التطرف.
وتلكم إشارة بمقتضاها يمكن القول بالضرورة العلائقية بين مصدِّر القوة وفاعل التأثير، وبذلك يُصبح كل ممثل لفاعل التأثير هو داعم لمصّدِر القوة.
قد يُفهم من القول السابق أن «النفعية» لا «الإيمان» هي الدافع إلى فاعلية اعتناق «مصطلح ما».
وهذا الفهم قد يقود إلى فكرة «ارتباط المنفعة بالإيمان».. أي؛ أننا نؤمن «بصدقية ما ينفعنا أو ما قد يحقق لنا نفعية بالاستثمار أو بالاستغلال».
إن فكرة الإيمان بلا شك مرتبطة بجوهر المنفعة التي يحملها المعتقد، وهذه طبيعة «تجاذب القوة المتشابه» فالكم لا يستمد قوته من عقيدة إنما تحقق العقيدة تمكينها من الكم وهذا هو «تجاذب القوى المتشابه»؛ لأن الكمية قوة صامتة في ذاتها.
كما أن علينا هنا أن نتجاوز «الدلالة الفاسدة للمنفعة» بالإضافة لا بالإلغاء؛ فإيماننا بالأشياء دوما متعلق بمستويات النفعية، وذلك يتوافق مع طبيعة الإنسان، فكلما كانت العقيدة حاملة للعديد من المنافع استطاعت وتوسعت في جذب أكبر طاقة للكم، وارتباط الإيمان بجوهر النفعية هو الذي يحقق له القدرة على تأسيس قيمة الصلاحية، والتطوير النهضوي لمحتواه.
وكلما ارتبطت عقيدة بمنفعة أو مجموع من المنافع جذبت إيمان الكم إليها ولذا يعدّ الإيمان أول شرط في تحول المصطلح إلى دين.
الإيمان بروح ومقاصد مضمون ذلك المصطلح
تعتمد فكرة الإيمان على محورين رئيسين هما: التصديق والفعل، والتصديق هو الولاء المطلق لتعاليم العقيدة والولاء لا يكتمل إلا بضرورة الفعل، وما بين الولاء والفعل يقع تأسيس الخطاب، والفعل «قوة إثبات ورفض» معاً، ولذا فهو طاقة متحركة غير مضبوطة غالباً إلا بمنطق التمكين الداعم للغائية الذي يسعى لخدمة إثبات ما تعتقد بجازمية تصديقه ولو بإيمان فاسد.
إن «فكرة الإيمان» هي التي تحول «المصطلح» إلى «عقيدة» أنه - هو - الممثل لصفات العقيدة «قوة الاعتناق، قوة الجزم والتصديق، وقوة الإجراء والتطبيق وقوة الدفاع والتضحية» فتلك القوى الأربع هي القاعدة التي يبني من خلالها أي مصطلح فاعلية تمكينه.
إن إيماننا بعقيدة غالباً مرتبط بقدرتها على توفير احتياجات الجماعة بشقيها الأكثري والأقلي الروحية والنفسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحماية تلك الاحتياجات لتحقيقها وضمان حرية ممارستها في ظل تشريعات وكفايات قانونية وحقوقية ذات ميزان عادل.
والإيمان بمصطلح يمثل عقيدة يتحقق في ضوء العديد من الأمور التي تهم الفرد والجماعة.
ومنها: رفع الظلم وفرض العدالة ولذلك فالمظلمون والمقهورون هم الطبقة الأولى من المؤمنين بروح ومضمون مصطلح منصف لهم، ومنها المساواة وتكافؤ الكفاية الاقتصادية بين الجميع، ولذلك يظل الفقراء هم الطبقة الأولى من المؤمنين بروح ومضمون مصطلح منصف لهم، ومنها ضمان حريات الأقليات ودعم حمايتها وتفعيلها ومكافحة التمييز ضد المرأة ولذلك تسارع الأقليات والمرأة للانضمام إلى الطبقة الأولى من المؤمنين بروح ومضمون مصطلح منصف لهم، ومنها أيضاً ضمان حرية الفكر والعقل والرأي والعقيدة والتشجيع عليهم ومحاربة التطرف والإقصاء ولذلك يسارع العلماء والعلمانيون والوجوديون للانضمام إلى أصحاب الطبقة الأولى من المؤمنين بروح ومضمون مصطلح منصف لهم، ومنها ضمان وفاعلية الديمقراطية وتداولية السلطة ومحاربة الديكتاتورية وهيمنة القمع ولذلك يسارع الثوّار والمناضلون والحقوقيون للانضمام إلى الطبقة الأولى من المؤمنين بروح ومضمون مصطلح منصف لهم، منها ضمان الحماية وفاعليتها من الخوف والإرهاب والجريمة والحروب، ولذلك يسارع كل من يبحث عن الأمن والراحة والتسامح والتعايش المتوازن المشترك والسلام للانضمام إلى الطبقة الأولى من المؤمنين بروح ومضمون مصطلح منصف لهم.
أما الشرط الثاني لتحول المصطلح إلى عقيدة بعد «الإيمان» فهو «الكِميّة».
كل مصطلح يدعم «فاعلية عقيدته وتمكينها» وفق «الكم» أو «الكل» المؤمن بتلك العقيدة، هذا لا يعني أن الأقليات لا تصنع عقائد، أو أنها لا تملك عقائد، لكن «فكرة التمكين» تعتمد على «الكم والكلية والأكثرية» بل لا تتحقق سلطة التمكين إلا من خلال «شرط الأكثرية أو الكلية».
وكلما توسع الفضاء الكمي للمؤمنين بعقيدة مصطلح ما ضمن وجود فاعلية تمكينه ومشيئته المقدرة وسلطة خطاب قصديته على الوعي الجمعي وهذا ما يُفسر لنا أسباب قيام الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية والاستعمار بمختلف أنواعه وأهدافه مروراً بالعلمانية وصولاً إلى العولمة والإرهاب وحركات الجهاد الإسلامي.
مع التنبيه أن طرحنا لمثال الفتوحات الإسلامية يأتي لمقتضى التمثيل لثنائية الكميّة وفاعلية التمكين ولا يقصد به مساواتها بالإرهاب أو عنفية ما يسمى بحركات الجهاد الإسلامي.
وشرط توسع الفضاء الكمي الذي يمنح المصطلح قيمته كعقيدة تُعيدنا إلى شرط القصدية وأوعيتها التنفيذية وإجراءاتها الوظيفية؛ لأنها هي التي تقود الأفراد إلى الإيمان بعقيدة المصطلح وهي التي من خلال خطابها وفواعله هي التي توسع الفضاء الكمي للمؤمنين بعقيدة المصطلح.
وكما أن القصدية عبر أوعيتها وإجراءاتها الوظيفية هي التي تتحكم في الشرطين السابقين لتحول المصطلح إلى عقيدة هي أيضاً القادرة على صناعة الفضاء الجاذب للكمي.
إن الحق ليس دائماً جاذباً عقلياً أو انفعالياً للوعي الكمي أو بعبارة أخرى إن الحق يجب أن ينتصر في النهاية أو أن الخير هو الذي يفوز في النهائية كما تعلّمنا من الأدبيات المثالية.
ما أريد قوله إن المفاهيم في خطاب القصدية ليس بالضرورة أن تسير وفق المتخيّل المثالي أو المتخيل المحايد أو المتخيل الفطري.
إن حسابات دعم المركزية الدلالية للمفاهيم مرتبط بأهداف القصدية والتي قد تلجأ إلى تزييف دلالة تلك المفاهيم أو تزويرها أو بزنستها أو استغلالها والمتاجرة بها لإثبات صحة تلك الأهداف وشرفها وقيمتها.
وكلما أُتقنت صناعة التزييف والتزوير والبزنسة والاستغلال أسهم ذلك الاتقان في نشأة تطرف الوعي الجمعي لحماية مركز دلالة تلك المفاهيم وميله إلى إقصاء وتعنيف من يعارضه في صحتها أو يشككه في صلاحيتها ونفعيتها أو يدعو إلى تطويرها ونهضويتها، وقد يخلق ذلك التطرف بدوره مبدأ «الموت المقدس» من خلال التفكير الإرهابي والانتحاري عند بعض أفراد الوعي الجماعي للدفاع عن يقنيّة مركز دلالة تلك المفاهيم؛ لأن مجرد التشكيك فيما تربى عليه وعيه المتطرف بأنه «يقين خالد» هو الذي يخلق داخل الفرد «متعة جنون الموت» للدفاع عن يقين عقيدته.
لا تكتمل فكرة الإيمان بيقنية عقيدة إلا في ضوء الكفر ببقية العقائد. إن هذا المبدأ هو الذي يحقق للقصدية صفتي الخطية والأحادية بأن تصبح عقيدة لا شريك لها لتضمن فاعلية التمكين،وهذا هو الأصل المكتسب في البقاء التاريخي للشعوب والحضارات.
إن التفريق بين معايير الصواب والخطأ أو الحق والباطل غالباً ما يعتريها بعض «الانحراف الدلالي» عن أصولها التي مهما توغلت في تاريخ متابعتها اصطدمت بانحراف دلالي مقونن مما يعني أن خطاب القصدية يمارس تحريفه دوماً في كل زمان.
مما يعطي كل قصدية أحقية وحرية تحريف معايير الصواب والخطأ أو الحق والباطل ولذلك «التاريخ المقدس دائماً للغالب والمنتصر».
وذلك الانحراف الدلالي مُساهِم رئيس في نشأة التطرف الفكري لوعي الجماعة؛ فعلى سبيل المثال بعض أهل السّنة يعتبرون «كل شيعي» كافراً.. هذا الحكم التطرفي اكتسبه وعي أهل السنة من خلال الانحراف الدلالي المُصدِر من خطاب فتنة القصدية، وهذا حديث آخر.