تسعى القطاعات الثقافية إلى الاستقلال وتدّعيه أحياناً، وتوهمها الجهات المُشْرفة بذلك بين تصريح وتلميح وتنظيمات لم تطبق فعلياً، ولا شيء منها على أرض الواقع فتستمر هذه القطاعات جزءاً من هيكل رسمي عام، وتتلقى ميزانيات ومعونات سنوية، وتندرج ضمن خطط التنمية الخمسية المعلنة.
وعند عتبات أول تجربة لاستقلالها عبر الانتخابات فشلت، واحتدم الصراع بين أبنائها، وتصاعدت أبخرة شتى في كل الجهات، وقد كانت نواة أولى للاستقلال؛ وهو خير لها وأبقى نظراً لحاجة المجتمع الراهن إلى التنظيمات المدنية.. والمثقفون ربما كانوا أقدر الناس على تبني المفاهيم وتطبيقها وإدارة مشاريعهم. وقد تكون هذه القطاعات حقولاً نموذجية لذلك.
ومن أهم عناصر ضمان نجاح تجربة الدخول إلى المجتمع المدني توفر العنصر المالي، واستمرار تدفقه، وانقطاع استجداء المؤسسة الرسمية، وقد لا يتحقق ذلك إلا بتبني مبدأ الوقف الثقافي وتطبيقاته، وهو أنجع الحلول وعميق الصلة بالحضارة الإنسانية، وعلى أكتافه صعدت مؤسسات مدنية شتى علمية وثقافية ودينية واجتماعية، وتناولته دراسات قديمة وحديثة شجعت عليه ورأته منقذاً وسبباً للاستمرارية والنجاح وسنداً لمؤسسات المجتمع المدني.
المجتمع المعاصر شهد تعدداً لمسميات الوقف من كراسي علمية وصناديق تنموية معرفية التي يعود ريعها على الآداب والفنون والمسارح والمتاحف والمؤسسات الدينية، ولعل أقدم الأعمال الوقفية في المملكة يتمثل في «مدارس الفلاح» بجدة التي انطلقت قبل أكثر من مئة وعشرين عاماً وتؤدي رسالتها إلى اليوم، والتجارب الأحدث تتمثل في ما تشهده جامعة الملك سعود من أعمال عقارية وفندقية ومشاريع تعتمد الوقف لدعم تطوير البحث العلمي وتحريكه ليسهم في تأسيس مجتمع المعرفة، وطورت كراسي البحث الوقفي وأعلنت مشروع أبراج الجامعة وأجزائه العقارية والإدارية.
ولا ننسى هنا تجارب المؤسسات الإنسانية والمنظمات الإسلامية الرائدة مثل هيئة الإغاثة الإسلامية، والندوة العالمية للشباب والجمعيات الخيرية، وهي قطاعات مدنية مستقلة شكّل الوقف جزءاً أساسياً من مصادر دخلها إذ برعت في إدارة مواردها ووظفتها في برامج الوقف لتعزيز أهدافها وتوسيع دوائر المنتفعين منها.
ولدينا نموذج حي على ثمار الوقف العلمي الثقافي يتلخص في تدشين وإدارة مكتبة الملك فهد العامة بجدة، وقد تعثرت عقدين كاملين وعجزت قطاعات شتى عن تشغيلها حتى أدارها مشروع الوقف العلمي بجامعة الملك عبد العزيز ففتحت أبوابها للمستفيدين قبل عام تقريباً.
هذه التجارب يمكن انتقالها، أو أجزاء منها، إلى القطاعات الثقافية حيث يمتلك بعضها رؤوس أموال مجمدة وأراض في مواقع استراتيجية مثل نادي جدة وجمعيتها الثقافية، واللجوء إلى الوقف مع حُسن التنفيذ ودقة الإدارة وعصرية القنوات يؤدي إلى موارد مالية مضمونة، وقد تستعين هذه الجهات بإنشاء دار نشر متخصصة، ومطبعة تحقق أهدافها، وتنشئ منافذ توزيع في المناطق، وتحصل من أمانات المدن على إدارة وتشغيل المرافق الثقافية والاحتفالات، والمشاركة في الصناديق الاستثمارية التي تحقق ربحاً سنوياً تدار به المشاريع، وتتحقق الخطط، وتسد ثغرات مطالبات الدعم المتتابعة، والكل يعرف أن عشرة ملايين ريال أودعت في حساب كل ناد قبل سنوات إضافة إلى الدعم السنوي الرسمي ومساندات الداعمين.. كل ذلك قد يؤسس انطلاقة العمل الوقفي الثقافي إذا صادف إدارة عصرية ونوايا واضحة وفعل مدني مستقل، ويمكن الاهتداء في كل ذلك بتجربة مؤسسة الملك فيصل الخيرية عبر مسيرتها المميزة.