Saturday 15/11/2014 Issue 451 السبت 22 ,محرم 1436 العدد

في مفهوم الداعية

البدعة: بين الدين والدنيا

(أ)

إلى ماذا تدل الآية الكريمة وما هي سياقاتها ومقتضياتها: (اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم، وأَتْممتُ عليكم نِعمتي، ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً) المائدة/3، وماذا يعني القول المنسوب إلى النبي العربي: (كُلّ بدعة ضلالة...)؟ هل المقصد ابتداع في الدين أم الدنيا أم كلاهما معاً؟ كيف نفهم التعارض بين الموقف من الابتداع وبين ممارسته عند الرعيل الأوّل؟ وما هو الفارق بين الابتداعين؟ وإلى مَنْ وجّه المتن المقدّس (فعل الأمر): (وادعُ إلى سبيل ربّكَ بالحكمة ..)؟؟ وكيف يمكن أن يتضمّن مفهوم الداعية ما يُفضي إلى استمرار الوظيفة النبويّة بحكم الدعوة جزءاً رئيساً خاصّاً بالنبوّة وهو ما يخالف المتن المقدّس صراحة بحيث ارتباط اكتمال الدعوة في العهد النبويّ وبخاتميته لهذه الدعوة؟ ما هو الفيصل بين النبوّة والدعوة؟

نضع هذه الأسئلة كمبتدأ لخبرٍ يظهر ويتّضح عبر مناقشة جوانب عديدة في مفهوم الداعية، وما قد يحمله من مخاطر على مفهوم الدستور وواقعه التنفيذي، على مفهوم النظام والسلطة وواقع ارتباطهما بخدمة الناس وتنظيم علاقاتهم وارتباطاتهم، وعلى مفهوم القضاة، وعلى مفهوم التعليم، وعلى مفهوم الحريّة والمسؤوليّة؛ وهي أسئلة ضروريّة لأنّ مجرّد التساؤل والإمعان في تكثيفها قد يُفضي في البعض إلى ما ترمي إليه، فإمّا أن يرفضها ويرفض مجرّد التساؤل حولها لإدراكه أنّها لا تصبّ في نهر مصالحها، إن كان ممّن يدّعون أنّهم دُعاةٌ، وهم متورّطون على الهدى الضليل بنوايا حسنة، وآخرون يدركون مرامي وغايات ودلالات الادّعاء بأنّهم دعاة، وحسبك دُعاة الخطاب الديني-السياسي، لا ينفكّون في خطابهم يربطون بالتشابه وبالتماثل بين: (الداعية والنبي)؛ فهل هذا الظنّ في التماثل الذي يزعمه الداعي ما يبرّره في المتن والوقائع، وما يحمله من دعوة إلى أناسٍ مؤمنين ومسلمين لا تنقصهم دعوة، ولعلّ (بل حتماً) بينهم من هو على علمٍ وتقوى تفوق ما لدى الداعي وحملانه وبضاعته؛ ويبقى مخاطر وجود داعية للإسلام في بلاد المسلمين أن تحمل دعوته خطاباً سياسيّاً يهدّد وحدة الدولة عبر تكوين كيان داخلي له واتّباعه (بوصفه داعية)، والداعي يماثل النبي في زعمهم الباطل، لأنّ الدعوة الانشقاق عن المركز الجاهلي وتأسيس مركزاً له ولأتباعه، فهل من باب المبالغة والافتراء هذا التصوّر؟ أم له ما يماثله على أرض الواقع الدعوي في الدول العربية؟

(ب)

نحاول بهذا المقام –قدر ما نقدر- تقديم مناقشة حول الأسئلة التي أشرنا إليها ومشتقّاتها باختزالاتٍ يفرضها المقام، ولعلّ الإيجاز (المقالي) لا يخلّ بالمعنى الذي يناقشه سياق الأسئلة والبحث فيها ولا يفرضه المؤلّف.

ألم يكتمل الدين بموجب المتن المؤسّس للدين نفسه؛ إنّ آية المائدة التي تصدّرنا بها المقالة لتخبرنا بأنّ الدين اكتمل، وبعض المرويات المنسوبة على واقعة الآية: أنّ من الصحابة الكبار من توقّع (دُنو أجل النبي عليه السلام) لأنّ الدين قد اكتمل، والدعوة أصلٌ وظيفيٌّ رئيسٌ في طبيعة النبوّة، وعملها الجليل في تبليغ الرسالة.

ونحن إذا ما ربطنا بين اكتمال الدين وإتمام الدعوة إلى رسالته، ومنع التحريم والتحليل إلاّ بما فيها، كما نصّ المتن نفسه، وما ينسب إلى النبي عليه السلام في حجّة الوداع، ومنع البدعة في الدين أو الاقتتال عليه وتمزيقه بحجّة ملكيّته (فالدين لله، ولا ينبغي لأحدٍ إدعاء ملكيّته والصراع عليها)، فإنّنا بحاجة للوقوف على الحالة التي اكتمل الدين بها وحُظر الابتداع فيه، لأنّ كلّ ما دُخل على الدين بعد ذلك فإنّه من بدع الدنيا، والبدع في الدنيا ضرورة لا يصدّها عقلٌ شرط أن تبقى ضمن الصلاحيّة الدنيويّة ولا تدرج بالكماليّة الدينيّة، فطبيعتها متقلّبة متغيّرة خاضعة للتبدّل وفقاً للظروف، فالبدع في الدين افتراءٌ لم يُجزه المتن ولا صاحب المتن المبلّغ: (حتّى تفسير المتن لا يُعدّ عندنا أصلاً من الدين، إنّما تفسير من الدنيا/أيْ: تفسير إنساني وابتداع يتوافق مع المقاصد والظروف ممّا يجعله جزءاً من بدع الدنيا المتغيّرة بتغيّر الظرف الذي كان علّة نشوء التفسير والتأويل لأجله، اقتضاءً لمصالحٍ ومنافع إنسانيّة عموميّة، ولا يجوز إشراك التفسير والتأويل وابتداعاتهما ضمن الدين المقفل بل ضمن الدنيا المفتوحة)؛ هكذا يكون الوقوف عند حال الجزيرة العربيّة الخاضعة للسلطان النبويّ ضرورة قصوى في معرفة ما هو ديني مقفل وما هو دنيوي/سياسي مفتوح، ومدخل لا بدّ منه في سياق موضوعنا.

(ج)

بالرجوع إلى المتن والوقائع الأولى، فإنّنا نقف على التصوّرات والملاحظات التالية، ونقدّمها كفاتحة لموضوع لا نريد أن يتوّقف عند حدود هذه المقالة:

• لم يقدّم المتن طريقة حاسمة في نقل السلطة من زعيم الكيان المؤسّس إلى من يخلفه، لا طريقة/منهجاً ولا تسميةً، (على الرغم من اختلاف ا لمرويّات بين تسمية الخليفة الصدّيق أو الإمام علي فيما ينسب إلى النبي عليه السلام وليس إلى المتن المقدّس) فالتسميّة بحدّ ذاتها ليست منهجاً بقدر ما هي نتيجة منهج، وهو الذي يصعب إيجاده في المتن على سبيل القطع؛ ونحن أقرب إلى عدم وجود منهج بعينه؛ ذلك أنّنا أقرب في هذا الفهم لحركة التاريخ، بناءً على تطابق وتماثل وقائع انتقال السلطة بين الخلفاء الأربعة وبين عدم وجود منهج، فالظنّ بوجود منهج يجرح هؤلاء الخلفاء كونهم لم يمتثلوا لهذا المنهج (إذا كان دينياً)، وهو ما لا نؤيّده ولا تؤيّده الوقائع، كون نقل السلطة لم يعتمد على منهج ديني، بل مُورس بناء على الضرورات الدنيويّة، ولعلّنا نذهب إلى أنّ الرخصة في عدم وجود منهج ديني، وبقاء المسألة في حدود الدنيا كانت برخصة من المتن المقدّس، تفسيراً وتأويلاً لقوله: (وأمرهم شورى بينهم).

• لم يقدّم المتن أيّة دعوة تبيح التوسّعات الحدوديّة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الوقائع مضت باتّجاه التوسّع صوب الروم وفارس؛ فهل كان القتال والتوسّع السياسي بدعة في الدين أم بدعة في الدنيا؟

• إنّ الكيان السياسي الذي أسّسه النبي العربي عليه السلام ضمّ أتباع الديانات: المسلمين-المؤمنين، النصارى، اليهود، الصابئة، وغيرهم، ولم يقتصر كيانه السياسي على أتباعه، كما أنّ سلطته ونفوذه لم يقع على أتباعه فحسب بل على جميع رعاياه، ومرّة أخرى لا نجد في المتن ما يمنع وجود أتباع الأديان كلّها في كيان واحد شرط أن لا يكون هذا الكيان دينيّا يمثّله فريق دون آخر، فلم ينصّ المتن على ضرورة إنشاء كيان مستقل، إنّما كان ذلك قراراً من النبي عليه السلام بوصفه قائداً إنسانيّاً إلى جانب (نبوّته ورسالته) أراد أن يضع كياناً حرّاً من أغلال احتكار دين على دين أو ملّة على أخرى، وجاء المتن ليبارك ويأمر بوجود طائفة مركزية تعتمد ميزان (المعروف والمنكر) وهذا الميزان بحدّ ذاته محض دنيوي غير خاضع للحرام والحلال الثابتين المقفلين لأنّهما يتعلّقان بجماعة المؤمنين، بينما الميزان خاضع للمعروف والمنكر الإنسانيّين المفتوحين والمتعلّق بالكيان وما يتضمّنه من جماعات عدّة ذوي أديان عدّة أيضاً؛ وهذا الكيان حتماً وعقلاً لن يكون كياناً دينيّاً، (دولة إسلام)، أمّا إذا أردنا أن نأخذ المسمّى على المجاز: أنّ من يحكم هذا الكيان هم مسلمون، فلربما نصوّغه ولا نؤيّده، لكنّ القول بوجود دولة إسلام مسمّى وواقعاً فذلك لا يكون ولا يتحقّق إلاّ بإخراج النصارى واليهود والصابئة من ذاك الكيان الذي أسّسه النبي العربي عليه السلام، وهو ما يتعذّر إثباته تبعاً للمصادر التاريخيّة، ولذلك فإنّنا لا نقول إنّ الكيان كياناً دينيّاً، وإلا فإنّنا لن نجد بين رعايا هذا الكيان أتباعاً له -وفي الوقت عينه- هم على ملّة أخرى، بل لقد حافظ هذا الكيان على تشريعات خاصة برعاياه من ذوي الأديان الأخرى مشتقّة من شريعتهم، ولم يخضعهم لتشريعات رعاياه المسلمين/المؤمنين.

• إنّ أفعالاً وأوامرَ وقعت بعد وفاة النبي العربي عليه السلام: بدءًا من اجتماع السقيفة، قتال الردّة السياسيّة، إشكاليّة تسمية الخليفة، تسمية أمير المؤمنين، استحداث العسس والدواوين، رواتب القضاة والولاة والسجن، التوسّع العسكري، محاكمات السارقين وفقاً للظروف المحيطة بقضاياهم، كلّ ذلك كان محض ابتداع: فهل كان بدعة في الدين أم في الدنيا؟ هل كان عدم وجوده في المتن يعدّ نقصاناً للدين الذي اكتمل؟ لا أظنّ الإجابة عسيرة على الأطراف جميعةً؛ لم يكن ذلك بدعاً في الدين، بل بدعاً في الدنيا.

(يتبع...)

ياسر حجازي - جدة