في مجتمعات معينة تصبح قيمة الإنسان عطاءه، ومقدار تميز ذلك العطاء، وفي مجتمعات أخرى تكون قيمة الإنسان ورقة بحجم الكف أو حرف يوضع أمام اسمه.
وقد مرت على المجتمع هنا فترة صار الحصول على الدكتوراه للوجاهة شغله وديدنه، ولو تركت الأمور من غير تدخل إعلامي وتواصلي قوي ومن غير ضوابط لأصبح لدينا ستة وعشرون مليون دكتور!! وذلك ليس إلا لأن المجتمع لدينا محكوم بعاملين رئيسين يؤثران فيه أكثر من أي شيء آخر، وهما عامل الإيديولوجيا القالبية التي تجعل الناس كقوالب جامدة مفرغة جاهزة للصب والملء، وعامل البدائية (الأعرابية) التي تهدف إلى الإشباع الحسي والبقاء عن طريق تطوير أدوات الصيد للحصول على أكبر قدر من الغنيمة، ولا شك أن شهادة الدكتوراه وقعت في الأعم الأغلب تحت تأثير هذين العاملين حتى عند بعض الذين حصلوا على شهادتهم من السوربون أو من جامعات مرموقة من المبتعثين.
والحق أن هذه الشهادة التي ليس إلا ورقة تثبت أن لديك قدرة على القيام بالبحث في تخصص محدد استطعت الحصول عليها بعد تدريبات شاقة وقراءات مرهقة ونصب وسهر، وأصبحت خبيراً في تخصصك يحتاج إلى خبرته للنمو للأفضل إنسانيا وحضاريا وعلميا.
هذه هي الشهادة التي لن يستحقها صاحبها إلا بمقدار ما يعطي بعدها.
ولكن بغض النظر عن المنطلقين واللاهثين وراء الشهادات المزخرفة والمعلبة والجاهزة وما أكثرهم، فمن المعروف أن الفضاء الذي يمنح الشهادة يؤثر في قيمتها حتى إن أتت من خلال قنواتها الرسمية ومن خلال إجراءاتها الشكلية فشهادة من السوربون أو أكسفورد أو هارفارد قيمتها أعلى من أي شهادة من جامعات العالم الأخرى مع الأخذ في الاعتبار الفروق الفردية والعوامل الأخرى المؤثرة في البحث.
بيد أن المشكلة في الفضاء الذي أسميه (فضاء السلق السريع) حيث يسلق كل شيء وحيث يتوحد كل شيء وحيث يتشابه كل شيء وحيث لا مكان إلا للنتائج المحددة سلفا وحيث توضع العربة قبل الحصان وحيث لا صوت يعلو فوق صوت الإيديولوجيا.
أعجب أشد العجب من الموضوعات والبحوث التي تطرح في المناخ غير الحر وفي المناخ المؤدلج وأعجب من طرق البحث وأعجب من اختفاء الإبداع..، طالعت بعض عناوين رسائل الدكتوراه وتصفحت بعضها في الفضاء الشيعي المؤدلج وفي الفضاء السني المؤدلج فوجدت في الغالب استعمال كل الأدوات البحثية بما فيها الأدوات الحديثة والمناهج المعاصرة لإثبات الإيديولوجيا. وما أكثر الحاملين شهادة الدكتوراه من المؤدلجين، يظنون أنفسهم باحثين علميين، وللأسف بينهم وبين البحث مسافات ومسافات، وما يؤلم أن أولئك يمسكون بزمام مفاصل مهمة في بلدانهم، وإذا فتشت تجد حفظة ووعاظاً يرددون بضعة نصوص ويتفاخرون بالدال التي يعتقدون صدقاً أنهم يستحقونها، وهم صدقا لا يستحقونها ثم يتحولون لصوصا بالقوة الكامنة وبفهم جدلية المصلحة والإيديولوجيا.
إن إعادة النظر في كل الأسس التي تمنح لأجلها الدكتوراه في التخصصات الإنسانية وحتى في التخصصات البحتة لا ينبغي أن يتوقف بل لابد أن يتم بصورة مستمرة، ولكن ذلك لا يجدي مادامت حرية الفكر وحرية الكلمة محكومة بفضاء مؤدلج أو فضاء عنصري ؛ لذا ينبغي لإصلاح التعليم أو حتى إصلاح منظومة البحث العلمي مناقشة القواعد والثوابت التي يقوم عليها المجتمع برمته ونقضها وإعادة تركيبها وفقاً للمجتمع الحديث.
أعرف جيداً أن أصحاب التيارات المؤدلجة يسهّلون لطلابهم كل عوائق منحهم الدكتوراه، وأعرف جيدا أن بعض العنصريين يفعل ذلك بشعور وقصد أو من غير شعور وقصد، ففي النهاية هذا ما يحدث، ويخرج بعد ذلك أصحاب دالات شرعيون وما هم بشرعيين، علماء وما هم بعلماء ثم تسهّل لهم شبكة المصالح الإيديولوجية والعلاقات التحكم في كثير من رسم الفضاء المحيط بهم بل حتى في مصير البحث العلمي أحياناً، وعلى ذلك تفقد القيمة الإبداعية، وتقمع أي محاولة للتجديد، وتحتكر شبكة المصالح الإيديولوجية ( الجهل العلمي ) الذي يؤسسه هذا الوضع لنظل في متاهة أقرب إلى الأمية والجهل والتكرار.
ومن هنا كثر بيع البحوث في أروقة الجامعات و كثرة السرقات بين الدكاترة الذين ليسوا بدكاترة، ثم جثموا على المناصب لايتزحزحون، وأصبحوا أبواقاً للدعاية لكل تأخر ولكل تخلف، ولذا تجد حتى الأنظمة واللوائح في التعليم العالي مصنوعة في الغالب على مقاسهم فإذا لم تصنع على مقاسهم تحايلوا عليها بشتى الحيل لتكون خادمة لمصالحهم، هنا تكون شهادة الدكتوراه شاهدة على الخواء وشاهدة على التراجع وللأسف أن هذه الصورة هي الغالبة.
ومن ناحية أخرى فإن عدم وجود الدرس الإبستمولوجي الحديث الذي يختص بنقد نظريات العلم ونقد المعرفة في معظم الجامعات العربية جعل أغلب نتاجها أشبه بنسخة واحدة في اللغة وفي طريقة التفكير وفي الوصول إلى النتائج العلمية حتى في المجتمعات التي تخف فيها سطوة الإيديولوجيا. تقرأ فتجد أسلوب القص واللزق والطرح التوفيقي أو السطحي أو الاختياري هو السائد. تفرك عينك وتمسك بيدك على رأسك حينما تجد كل الشروط العلمية والبحثية متوفرة في رسالة الدكتوراه ولكن لا قيمة لها، لأنها ما تزال تعيش في أتون الفكر السكوني.. أو الفكر الدائري الذي يعود إلى نفسه، في حين أن المجتمعات المتطورة حملها تطورها إلى مرحلة مجاوزة الفكر الكارثي، إذ الفكر الكارثي في منظومة الفكر الغربي هو طريقة لتجاوز الفكر الوثوقي والفكر اليقيني هو حديث النهايات والبعديات « وهو حسب مصطلحه الجديد في الإبستمولوجيا المعاصرة إنما يعني وضع الفكر في حالة من الاستنفار الدائم كي لا يسقط أنظمة معرفية قد تشمل تفسيرات كلية فضائية وحيوية ليأخذ بأنظمة أخرى « كما يقول مطاع صفدي في نقده للعقل الغربي. وما بين الفكر الكارثي والعقل الأداتي و الدراسات الإدراكية الحديثة يأخذ الفكر المتطور أبعادا إبداعية لا حدود لها مع المحافظة المؤقتة على الأسس المتصلة (فيما قبل وفيما بعد) ريثما يتم إسقاطها للانتقال إلى مرحلة جديدة وهائلة من التطور، والمشكلة أننا نقلد ونلهث خلف المنظومة الغربية مع اختلاف الفلسفة الكامنة خلف تحرك الفكر والعلم في الغرب عنه في الشرق، لذا يبدو إنتاجنا في الغالب ترقيعا مضحكاً أو اقتساراً لا يتوافق مع الفضاء أو ابتسارا لا يمكن فهمه، وهنا يكون العلم والبحث بعيداً عن المجتمع بل إن بحوثنا كما يقول عمار جيدل : تفتقد إلى دراية دقيقة بمعطيات العصر في عالم الأفكار لهذا كانت أشبه بإجابة لأسئلة غير مطروحة أي مفقودة وهي أقرب إلى اقتراح صحفي على زميله وضع سؤال لجواب المسؤول السامي الذي لم يوفق في الإجابة عن السؤال الأصلي المطروح ذلك أنه مادام جواب المسؤول خارج موضوع السؤال فالأحسن أن تضع سؤالاً لجوابه المقدم أي أننا نفصل يوسف على قد القميص عوض أن نفصل القميص على قد يوسف كما يقول الأستاذ مدني صالح.
ولذا فإننا كما نحتاج إلى التخلص من أسر الإيديولوجيا للتفكير العلمي والبحث وهو الوضع السائد الذي تصبح فيها الدكتوراه شاهدة على الخواء نحتاج في الوقت نفسه إلى درس إبستيمولوجي خاص بنا يختلف عن إبستيمولجيا الغرب لنبدع لا لنقلد، ولن يكون الدرس الإبستمولوجي قادرا على التشكل من غير تثبيت حرية الفكر وحرية البحث وسن القوانين والأنظمة التي تكفلهما وتجرم التدخل في عمل أستاذ الجامعة البحثي كما تجرم تماما التدخل في حكم القاضي. ولكن قبل ذلك كله يتحتم علينا إعادة التخطيط للبحث العلمي وإيجاد قياسات مستمرة لجودته، وملاحقة كل تقصير ومحاسبة المقصرين في نوع البحث وكمه وفي مدى ارتباطه بالمجتمع ومشكلاته ومستقبله وأعتقد أن كل ذلك لن يتم إلا في مجتمع حديث على لغة من ينتظر أو من لا ينتظر.