أول القراءة اكتشاف يقودك للدخول في الكتاب
وأول الكتاب دهشة تدفعك للقفز فوق السطور لتعرف أكثر ومنتصفه استغراق خالص في طقسه، تكون قد قطعت المنتصف وعرفت ما يجعلك متعلقا به أكثر وأكثر.
وبعد المنتصف تتبدى لك البدايات مرة أخرى وتتدلى أمامك الخيوط اللامعة والمضيئة والمعتمة، فتسحبها كلها، بعضها يتأبى وبعضها يأتيك طائعا مختارا، بعضها يهديك بهجة وبعضها يلمس بسكينته قلبك
ماذا بعد ..... بعد ... المنتصف !!...
لا تزال تقرأ وتستغرق وتدهش وتعود من جديد، لا تغادر الكتاب ولا منتصفه..ولا تقفز على السطور... لم يعد القفز على السطور دهشة، بل أصبح المشي على سطر الكتاب مهارة تتطلب استغراقا تاما في حرفه ورسمه ومعناه، أصبحت القراءة تأملاً يتطلب الخشوع ومقصده السكينة والاستغراق، تخشى أن تصل لنهاية الكتاب فتنقضي متعتك وتفقد تلك السياحة الذهنية الجميلة التي امتلأت بها معه.
هذه السكينة والمتعة والاستغراق لاتتأتى لكل كتاب، فبعض الكتب تقطعها عدوا حتى ترى نهاية هذا الكلام المصفف، تقفز بعض الصفحات المليئة بالحشو حتى تصل لما يريد المؤلف قوله وتنهيه متأسفا على وقت أضعته فيه! كتبت هذا الكلام عن القراءة لأني أراها حياة أخرى ينبغي أن نحياها مع من يستحق.
فقد انتهيت منذ قليل من قراءة رواية قصيرة من روايات إسماعيل فهد إسماعيل اسمها (كانت السماء زرقاء) وأحببت النص كثيرا ووضعت الرواية على قلبي عندما انتهيت، احتجت أن أحضن الكتاب وأمرر يدي عليه
لم يكن مجرد كتاب كان كائناً حياً رافقني لساعات، حدثني خلالها حديثاً طويلاً ماتعاً شافياً ومضى.
بعض الكتّاب لديه هذه القدرة الجميلة على بعث الحياة في شخوص نصوصهم، لدرجة أنك تفتقدهم عندما ينتهي النص، تشعر أنهم رفقتك الطيبة الذين فهموك وأحبوك كما أحببتهم
هم لم يخرجوا من النص بل أنت الذي دخلت إليهم
تحولت أنت كقارئ لنص جامد وصامت
وأصبحوا هم الحياة بكل ماتحمل من نبض دافق، وعلى قدر صدق وإبداع الكاتب ترى شخوص رواياته تتمثل أمامك بشرا سويا.
وبعض الكتاب تشعر مع نصوصهم أنك أمام جثث باردة يحركها المؤلف بخيوط واهية، تأخذ من وقتك الكثير بل هي في الحقيقة تسلبك حياة كان يجب أن تحياها مع كتاب آخر، لذلك لابد من أن يتحقق أمامك شرطان كي تقرأ كتابا ما:
لابد من المتانة والمتعة
لايمكن أن تقرأ كتابا متين البناء تنقصه المتعة، ولايمكن أيضا أن تقرأ كتابا ممتعا وهو هزيل البناء، وما أعنية بالمتانة، متانة بناء النص، متانة اللغة والأسلوب.
وما أعنية بالمتعة هو التشويق وقدرة الكتاب على إمتلاكك وسحبك لعالمه، وهذا الكلام ينطبق على الكتب الإبداعية ولكن في غير الكتب الإبداعية لابد من البساطة والمرجعية، بساطة تمكنك من فهمه ومرجعية تقنعك بطرحه.
عدا ذلك لا يمكن أن أقرأ لكثير من الكتاب الذين ليس لديهم متانة ولا تشويق وليس لديهم أي من إشتراطات الكتابة غير القدرة على جمع الكلمات وصفها في سياق لاروح له ولا جسد متين.
هؤلاء أقرأ لهم مرة وقد أقرأ لهم مرتين ايضا ثم أكتشف أن هذا الكاتب ليس ممتعا ولا متينا بما يكفي كي أقرأه لذا أضعه خارج صندوق قراءاتي ولا أعود إلية البتة.