يعتبر الاكتئاب - بلا شكٍّ - مرضَ العصر. وبالرغم من كون أكثر الناس المصابين بالاكتئاب لا يقتلون أنفسهم، إلا أن عدم معالجة الاكتئاب قد يُفاقم من حدّته، وبالتالي... يزيد من احتمال حدوث انتحار.
ليس من غير المعتاد للأشخاص المكتئبين أن تكون لديهم أفكار انتحاريّة، بغض النظر عن توفر النيّة أو عدمها لتنفيذ هذه الأفكار. ولحسن الحظ... فإن الأشخاص شديدي الاكتئاب لا تكون لديهم دائماً الطاقة لإلحاق الضرر بأنفسهم. ولكن، ولسوء الحظ، عندما يخف اكتئابهم ويكتسبون بعض الطاقة، فمن المحتمل أن يحاولوا الإقدام على الانتحار!
تقول الإحصائيات في الولايات المتحدة: إن 15% من المكتئبين إكلينيكياً يموتون منتحرين. وفي عام 1997، كان الانتحار هو السبب الثامن للموت في البلاد، حيث بلغ عدد المنتحرين 535‚30 إنسان؛ أي ما يعادل 6‚10 منتحر لكل 000‚100 مواطن. وفي عام 1996، كانت هناك 000‚500 محاولة انتحار.
أرقام مذهلة!
وهنا ... نقدم ترجمة لمقال مهم نُشر في مجلة “سيكولوجي تودي” (علم النفس اليوم) Psychology Today الأمريكية بعنوان: “جَناح الاكتئاب” بقلم الكاتبة هارا إستروف مارانو. والمقال يلخص قصة أحد رؤساء الشركات الأمريكية العملاقة مع الاكتئاب الانتحاري.
انتهى التقديم ، والآن مع المقال:
جَناح الاكتئاب
في أحد أيام 1996، أخذ رجلان يتحاوران عن أحزانهما داخل مكتب في ناطحة سحاب تقع في مدينة هيوستن، ولاية تكساس الأمريكية، وماذا يمكن - بحق الجحيم - أن يفعلا بروحيهما المكتئبتين.
هل هي كوميديا سوداء؟ ربما!
أحدهما هو فيليب بورغويرز الذي كان في إحدى السنوات أصغر رئيس شركة (CEO) ضمن قائمة أكبر 500 شركة التي تنشرها مجلة فورتشن Fortune الأمريكية كلَّ عام. استطاع فيليب خلال سنوات قليلة أن يجعل من شركة وذرفورد Weatherford شركة عملاقة في مجال خدمات الطاقة. ولكن عندما بلغ الثالثة والخمسين في 1996 استقال - فجأة - من عمله رئيساً للشركة، وتوجه لقضاء ثلاثة أشهر في مصحة نفسية. لقد كان فيليب يعتقد أنه “على يقين 100% بأن العالم سيكون أفضل بدونه”.
والآخر هو مستثمر عقاري كبير اسمه جون سيج وعمره ثمانية وأربعون عاماً. أصيب جون بالانهيار بعد مقتل أخته، بصورة بشعة، في جريمة. واضطر بالتالي إلى محاولة وقف الاكتئاب عن طريق الأدوية وجلسات المعالجة النفسية (سيكوثرابي) والقراءات الدينية.
أطلق الرجلان على هذا المكتب “جناح الاكتئاب”.
يغادر فيليب سريره كل صباح بصعوبة، ويقود سيارته إلى مكتبه الجديد الممنوح له من قِبَل شركة وذرفورد؛ لأنه لا يزال رئيس مجلس الإدارة. ويقوم فيليب بالرد على المكالمات الهاتفية، وأحياناً يقبل اجتماعات إفطار أو غداء، ولكنه لا يملك عزيمة المبادرة لكي يدعو أحداً لمقابلته.
إخوة ليس برابطة النسب
ولكن برابطة الاكتئاب
يقوم جون بزيارة فيليب في الغالب عند منتصف النهار بدلاً من مكوثه في المنزل، ويتبادل الحديث معه في كل الأمور لطرد الأفكار السيئة من عقله أيضاً.
مناقشة أفضل طرائق الانتحار
يقول فيليب: “بلغ جون ذروة الاكتئاب قبلي، وبدأ في الخروج منه. لقد كان متقدماً عليَّ بستة شهور في طريق العلاج من الاكتئاب. لقد كان مرشدي”. ويضيف جون: “لم نكن نقضي الساعات في جناح الاكتئاب نرثي لبعضنا”. ويؤكد فيليب: “لقد كنا نناقش أفضل طرائق الانتحار التي نفكر فيها ثم نضحك”. لقد كانا بالفعل يعاملان بعضهما كإخوة، ليس برابطة النسب، ولكن برابطة الاكتئاب.
لم يكن أيٌّ من الرجلين يعتقد أنه يستطيع أن يفعل شيئاً مهماً مرة أخرى فيما بقي من حياته. يقول جون: “كنا نشعر أننا، حتى وإن كان لدينا شيء مهم نفعله، لن نكون قادرين على إتمامه إطلاقاً. كنا نشعر بالخوف من أن نكون هامشيين طوال ما بقي من حياتنا. كنا نعيش في كابوس رهيب”. الشيء الذي لم يفهماه آنذاك هو أن اجتماعهما في حد ذاته هو أمر جيد. إن تنفسهما من هواء المكتب نفسه كان يساعد في إخراجهما من الاكتئاب. يقول جون: “كنا نتحسن دونَ أن نعلم”.
الخوف من وصمة العار
خبرة فيليب، رئيساً لشركة كبرى عانى من الاكتئاب وبدأ يخرج منه، تعتبر تجربة غير عادية. ونتيجة لإعلانه عن مرضه - فيما بعد - وعدم إخفائه، أصبح الكثير من كبار المديرين التنفيذيين (CEO’s) المكتئبين يستشيرونه بصورة سرية. يجد فيليب نفسه في وضع غير عادي؛ لأنه يدير شبكة سرية لرؤساء شركات مكتئبين. وأكثرهم يجدون راحة في البوح عن اكتئابهم لرئيس شركة مثلهم، وذلك خشية أن تلحقهم وصمة عار، تجعلهم يخفقون في الحصول على ثقة مجالس إدارات شركاتهم، وبالتالي يفقدون موقعهم في عالم الشركات الكبرى.
عالم سري للغاية
تجربة فيليب تفتح نافذة مهمة داخل عالم سري للغاية؛ لأن أي ضعف يمكن ملاحظته على رؤساء الشركات يكلِّف ثمناً باهظاً. فيليب يتذكر أن اليوم الذي استقال فيه، وبدأ العلاج “لقد كان حقاً أسوأ يوم في حياتي”. لقد تلقى صدمة لنشر صحيفة “هيوستن كرونيكل” خبر استقالته لـ “أسباب صحية” في الصفحة الأولى مع صورة ملونة له. في ذلك الصباح هبط سعر سهم شركة وذرفورد بمقدار 10%.
ولأن فيليب يتكلم الآن - مرتاحاً - عن اكتئابه علانية، فإنه يتلقى دعوات دائمة للحديث عن تجربته في المنظمة العالمية لرؤساء الشركات التي تضم أكثر من 3300 رئيس شركة حالي ومتقاعد. يعتقد فيليب - حسب خبرته الشخصية - أن تقديرات عدد المرضى بالاكتئاب أقل من الواقع. ويؤكد “أن هناك ما لا يقل عن 25% من المديرين التنفيذيين (Executives) الذين يعانون من الاكتئاب في فترة ما من حياتهم العملية. سوف تندهشون من عدد المديرين التنفيذيين الذين يديرون شركات كبرى، وهم يعانون من الاكتئاب العنيف”.
المفارقة... عندما يؤدي
النجاح والتفوق إلى الاكتئاب!!
في المقابل، يعتقد بعض رؤساء الشركات الكبرى أن فيليب متهاون في تقديره عن شيوع الأمراض النفسية لدى المديرين التنفيذيين. يقول أحدهم - يرفض الكشف عن اسمه - ، والذي خاض تجربة عنيفة مع الاكتئاب الانتحاري وبدأ يخرج منها، “كونُكَ الملكَ المتوَّجَ في شركتك هو الداء. تكتشف فجأة أن المتعة الحقيقية هي في الوصول لمنصب الرئيس. لكنك بعد الوصول إلى هناك، تعيش في خوف من أن تفقد منصبك. ليس الوصول للمنصب هو مصدر الإحباط فقط، بل ما يتبعه من عدم الشعور بالرضا عن نفسك كملِك للكون المحيط بك، ومعاملتك المختلفة للناس. والأسوأ: هو تصديقك كلَّ الهَراء الذي تقوله”. ويضيف: “ينتشر الاكتئاب في الوظائف الإدارية العليا بين المديرين الذين حققوا أهدافهم، وبصورة أسوأ بين الذين لم يحققوا أهدافهم”.
الاكتئاب كان آخر شيء يتوقعه فيليب عندما عُيِّن، وهو في سن الخامسة والثلاثين، رئيساً لشركة “كامرون آيرون وركس” من غير أن يسعى لهذا المنصب. ولكن شعوراً بالقلق انتابه في الأشهر الأولى بعد توليه هذا المنصب المهم. فبعد عَقْد ونصف من العمل الناجح في تطوير شركات ضخمة جداً في قطاع الطاقة، وبالتالي زيادة دخله بصورة هائلة، شعر بالقلق بصورة أشدَّ حِدَّةً من السابق. عندما بلغ الثامنة والأربعين عام 1991، انهار فيليب في مكتبه قبل أن يعرف أن مرضاً اسمه الاكتئاب قد أصابه. أقنعه الأطباء أن عليه أن يترك عمله المجهد في شركة وذرفورد التي انتقل بها من شركة ذات رأس مال يساوي 100 مليون دولار، إلى أن تكون شركة عملاقة ذات رأس مال يقدر بـ 3 بلايين دولار في خمس سنوات فقط. وذهب فيليب إلى مجلس إدارة وذرفورد بتقرير من طبيبه يشير إلى أنه يعاني من”اختلال كيميائي في خلايا الدماغ، ويحتاج إلى ستة شهور للعلاج”. وبعد عدة شهور من العلاج عاد إلى عمله، رئيساً لشركة وذرفورد، مرة أخرى. ولكن الاكتئاب عاد بصورة مضاعفة. هذه المرة، استطاع معرفة اسم المرض الذي أصابه. وسرعان ما غادر عمله للإقامة والعلاج في عيادة “منينجر” للأمراض النفسية Menninger Clinic، وهي من أشهر وأقدم المصحات النفسيّة في الولايات المتحدة، حيث تأسست في عام 1925، وتكلف الإقامة فيها 1,000 دولار يومياً وتقع في مدينة توبيكا في ولاية كنساس. ولكن للأسف لم تفده هذه العيادة كثيراً!!
ولكن لقاءً عن طريق المصادفة - فيما بعد - مع شخص أفاده كثيراً. بعد شهر واحد من عودته من عيادة “منينجر”، خرج فيليب مع زوجته شيريل لتناول طعام العشاء في أحد المطاعم، وهناك رآه جون سيج. كان جون يعرف فيليب بصورة سطحية. اقترب جون من فيليب وحيّاه، ثم قال: “لقد قرأت خبر مرضك وتَرْكِك العمل. ماذا حدث؟ هل أُصِبتَ بنوبة قلبية؟”. أجاب فيليب: “أنا أعاني من شيء لا يخطر على بالك جون! أنا أعاني من الاكتئاب!”. لا يدري فيليب - حتى الآن - لماذا صارح جون بحقيقة مرضه! لم يكن يعرف جون جيداً في ذلك الوقت، ولم يكن قد أطلع أحداً - سوى زوجته - على حقيقة مرضه. ولكنه متيقن الآن من أن جون أنقذ حياته. صعق جون لحقيقة مرض فيليب، واقترح فوراً أن يتحدثا على انفراد.
ولد جون في ولاية لويزيانا. وكان نجم كرة قدم شهيراً في شبابه، ثم أصبح مستثمراً عقارياً كبيراً في هيوستن. باح جون لفيليب بسره، وهو أنه يعاني - مثله - من الاكتئاب الشديد، وأنه يكافح بقوة للخروج منه. دُهش فيليب، وقال: “لا يمكن أن تكون مكتئباً يا جون. لقد كنتَ نجمَ كرة قدم لامعاً. أنت قويٌّ جداً!”. أجاب جون: “ولكن، يا فيليب، أنت تملك ثروة طائلة ومنزلاً خرافياً!”.
نوعان من المديرين التنفيذيين
إن الخصال التي تدفع المديرين التنفيذيين للنجاح، يمكن أن تنبع من مكان مظلم في الروح. يقول فيليب: “هناك نوعان من المديرين التنفيذيين الناجحين: الذين ينجحون، لأنهم عمليّون ويضعون أهدافاً ذكية ودقيقة لكل نشاطاتهم، والذين ينجحون، لأنهم يخافون من الإخفاق. أنا كنت ناجحاً بسبب الخوف من الإخفاق. لم آخذ إجازة مطلقاً. كنت أشعر بتأنيب الضمير عندما أتمتع بنزهة بعد وقت العمل. لم أكن أريد أن أكون مثل والدي الذي خسر عمله، عندما كنت طفلاً، وبقي في المنزل عاطلاً عن العمل”.
خطورة أن تكون مدمنا على العمل
(Workaholic)
يقول فيليب: “لقد كنت مدمناً على العمل (Workaholic) بصورة لا توصف. وكانت لي عشيقة. كنت أكذب على زوجتي كل يوم أحد عند الساعة الثانية ظهراً حين أقول لها إنني سوف أذهب للجري. وعندما أتأخر في العودة تسألني عن السبب، فأجيب بأنني توقفت عند مطعم وجبات سريعة لتناول الطعام. ولكن في الحقيقة كانت العشيقة التي أذهب إليها هي وظيفتي!”.