الفنان دوشامب يكسر قوانين الجمال ويورث القبح في الفنون المعاصرة
الحالة التي تعيشها الساحة المحلية أصبحت ملفتة للنظر وطارحة لعلامات استفهام لا تخلو من الاستغراب وأحيانا كثيرة الاستهجان والرفض، ومع ذلك فبالإمكان القول إن ما ينطبق على ما نتعامل معه من مظاهر الحياة خصوصا المتعلقة بما يقتنيه الفرد لكل ما له علاقة بحياته الخاصة ومنها قطع الأثاث أو نوع السيارة وموديلاتها أو تصميم المنزل وما يتبع من ديكور وإكسسوارات بأنه لولا اختلاف الآراء لبارت السلع، ومن هذا المبدأ والمنطلق يمكن أن يشير إلى ما يحدث وما حدث قبله من تغير في سبل تنفيذ الأعمال الفنية يعود إلى اختلاف الآراء والتجارب الفنية، يتقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر.. ومهما اختلفت أو برزت بعض الأعمال غير المقبولة والخارجة عن الذوق العام إلا أننا نتفق على أن العمل الجيد يبقى جيدا وغير ذلك يسقط في مزبلة الفن وليس التاريخ.
دفعني للتطرق لهذا الموضوع ما أصبحنا نراه من توجه مندفع لنخب من الشباب البعض منهم وهم القلة يدركون ما تعنيه هذه الأساليب التي أطلق عليها الكثير من العناوين والصفات من فنون حديثة وما بعد الحداثة والمفهومية أو (المفاهيمية) التي يمكن وصف الكثير منها بالفنون غير المتحفية نتيجة عدم تقيدها بأهمية الخامة بقدر ما يسعى الفنان فيها إلى طرح الفكرة..
لقد برزت حركات وتحركات ركبت موجة التجديد (في حيزنا حيث جاءت متأخرة جدا) وليس على مستوى الفن عامة إذ أننا لوعدنا إلى تاريخ هذه الفنون ونشأتها لوجدنا أنها ولدت قبل سنوات طويلة ومع ما أحاطها من اهتمام في فترتها إلا أنها لا تزال تتعثر، تارة تظهر على السطح من خلال عمل متفرد يستحق التقييم ووصفه بالإبداع وتارة تظهر غثاء وزبد سيل، لا يبقي له أثر ولا لمن نفذه يعرف ما ينتهي إليه.
دوشامب واستبدال الجمال بالقبح
قد يقول قائل إن هناك الكثير ممن ينسب لهم انطلاقة هذا التحول في الفنون تجاه فنون الفكرة أكثر منها تكنيك وإتقان وإن تاريخ ميلادها يعود إلى الستينيات من القرن الماضي، وبالتحديد بعام 1972 والذي حدثت فيه تغيرات شاملة في الثقافة الغربية عودا إلى مؤثرات سياسية واقتصادية، غيرت تلك التغيرات الفنية في سبل التنفيذ التي تعود عليها الجمهور ورسخت في عقول الغالبية وأصبحت فنون عصرهم مصدر استثمار لتجار الفنون على مستوى العالم ومنها فنون عصر النهضة وما تبع ذلك من فنون القرن العشرين ولكنني أجد في الفنان ماركويل دوشامب أبرز مثال وأكثرهم انتشارا وحضورا وأهمية،
وقد يكون من أسباب اختياري لهذا الفنان هو التيار أو الحدث الفني الخطير الذي أطلقه لأول مرة في تاريخ الفنون عام 1917 عندما قام بالمشاركة مع جمعية الفنانين المستقلين بعرض “مبولته” الشهيرة التي مستبدلا ما يتم عرضه في المعرض من أعمال ذات قيم فنية وجمالية بعمل أقرب ما يكون للقبح منه للجمال، إذا ربطانا (المبولة) بما عرف عن مكانها وبماذا تستخدم.
ومع ما حملها من معنى يجهله منظمي المعرض، إلا أنها لم تجد القبول من الجمعية وتم رفضها كون العمل لا يتفق مع ما يشتمل عليه المعرض إضافة إلى أن العمل ليس من تنفيذ الفنان دوشامب، وإنما سابق التصنيع، دفعه هذا الرفض إلى الاستقالة من الجمعية.
وكان دوشامب قد عرض المبولة بشكل قائم مع الإشارة ببعض الأحرف اللي صانعها، وهنا يكشف أن الهدف من عرضها تقديم فكرة أبعد من وأهم من التنفيذ...
دوشامب وتعليق الجرس
كان دوشامب بعلمه أو دون ذلك وبهذا التصرف الخارج عن المألوف، يراه البعض تعليقا للجرس في عنق من كان يتمسك بالفنون التقليدية ويرفض تجاوزها من خلال طرحه السؤال عما هو فن وما ليس فن، أدى هذا التساؤل إلى إحداث تبدل في النظرة الضيقة للفنون ومعرفة مفهوم الجمال وأصبحت تلك (المبولة) وما تبعها من أعمال للفنان دوشامب، البداية الأولي للفنون الحديثة غير المقيدة أو تابعة للقيم الفنية التي اعتمدتها الأكاديميات أو يتعامل معها النقاد وتقيدهم بأسس بناء العمل، فكان لعمل دوشامب تأثير كبير في التحولات التي تعرضت لها الفنون المعاصرة، وشكلت انقطاعاً وانقلاباً علي الجماليات التقليدية للفن.
إزاحة التركيز على جماليات الشكل
لا شك إن هذا الفنان مادة خصبة للحديث عنه وإجراء البحوث المستفيضة عن تجربته وقدرته على تغيير وجه الفنون وجعلها في حالة من التذبذب، والتأثير الكبير على أجيال الفنون وصولا إلى تبعية أقل ما يمكن أن يقال عنها (التبعية الجاهلة) ونعني أن ما فتحه دوشامب من مجال الفكرة أكثر منها إتقان للعمل يمنح كل من هب ودب للولوج إلى هذا العالم.
ويحضرني هنا رأي تحت عنوان “الانفصال بين الفن والجماليات في الفنون المفهومية”، للكاتبة دينا أبو الفتوح جاء فيه ما يلي (إن دوشامب اتجه إلى التركيز من العمل الفني نفسه كمادة إلي ما يمثله العمل من أفكار ومفاهيم وهو تيار أصبح مهيمناً إلى حد كبير بعد ذلك في الفنون المعاصرة وإن لم يكن دوشامب هو من ساهم في تعميقه. ففي عمل دوشامب ليس المقصود المبولة في حد ذاتها، ولكن المقصود هو إعادة طرح السؤال حول طبيعة العمل الفني، وربما إعادة تعريف علاقة زائر المعرض بتلك الأداة التي يستعملها بشكل غير واع غالباً، باختصار أصبح مثار الاهتمام في الفنون ليس العمل الفني نفسه والحرفية والإبداع في صنعه ولكن فيما يقدمه من أفكار وتصورات وأسئلة، ومفاهيم جديدة.
وتكمل الكاتبة أبو الفتوح إنه ورغم رفض عدد كبير من الفنانين المعاصرين، للانفصال في الفنون المعاصرة بين الجماليات الفنية للعمل والمفاهيم التي يطرحها، إلا أن دوشامب كان معبراً عن ذلك بوضوح ففي النموذج الذي قدمه، لم تعد وظيفة الجماليات أن تقدم لمشاهدها الإبهار والإغراء البصري الحسي، سواء عبر جمال الألوان في لوحة أو المهارة الفائقة قي صناعة تمثال ولكنها أصبحت تعمل كمحفز للأفكار التي تعيد تعريف علاقتنا بالعالم وبالأشياء، فيقول دوشامب عن عمله أنه ينقل مشاهد الفن من التركيز علي الحرفة والمهارة في صناعة العمل الفني إلي محاولة التفسير الفكري للعمل.
كسر عمل دوشامب أيضاً مسألة فرادة العمل الفني، ففي التصور التقليدي لا يوجد من العمل الفني سوي نسخة واحدة “أصلية”، لا يمكن استبدالها، لكن دوشامب استعمل “مبولة”، لا يمكن تمييزها عن آلاف المباول الأخرى التي تنتجها المصانع كل يوم.
ولم يعد دوشامب مضطراً لنقل المبولة الأصلية إلي فرنسا أو أمريكا أو إنجلترا لعرض عمله، يكفيه فقط أن يطلب نسخة من أي مبولة مصنوعة جاهزة ليعرضها ولن يشعر الزائر بأي اختلاف.
وفي الواقع فقد استعملت نسخ مختلفة من “المبولة” في عروض متحفية متعددة عبر العالم وقد فقدت المبولة الأصلية أيضاً، ولم يبق منها سوي صورة فوتوغرافية قديمة.
وتضيف إن دوشامب كسر أيضاً سلطة المتحف، تلك السلطة المهيمنة التي ظلت لعقود تضع القواعد لقبول الأعمال الفنية التي تعرض بها وتلك التي تنبذ خارجاً، فوراء تلك القواعد كانت هناك تصورات معينة عن الفن تحدد ما هو الفن وما ليس بفن، وباختيار دوشامب لعمل صادم وجاهز الصنع بالأساس وتمكنه من عرضه حتى ولو في أماكن بديلة فهو فضلاً عن خلقه لمساحة أخري موازية للمتحف، كسر سلطته وفتح مجالاً جديداً لما يمكن أن يكون عليها الفن، نجحت في فرض نفسها والهيمنة فيما بعد.
تجربة دوشامب واختلاف البيئات الفنية
انتهى ما يمكن استقطاعه من تلك الورقة والتي اختزلت الكاتبة فيها الكثير من الجوانب الهامة في تجربة دوشامب لنعود إلى القول وطرح السؤال..
أي البيئات تصلح لمثل هذا التوجه ؟؟ ولماذا لم تستقر هذه الموجة أو تحط رحالها لتصبح جزءا من الفنون المعترف بها والمقبولة عند الجمهور الواسع لتتجاوز حدود إعجاب جمهور الفنانين فقط..
وهل ما نشاهده من الأعمال المفهومية أو المعاصرة منطلقا من وعي وقدرات في رصد واقتناص الفكرة التي يجمع عليه جمهور المتلقين للعمل أم أنها عابرة لا صوت ولا صدى لها إلا فيما تحدثه من ردود فعل غالبيتها الاستهجان..
لقد وصل الأمر في فنون الحداثة إلى ما هو أبعد من مبولة دوشامب.. وتم عرض الروث الآدمي.. فهل يجد هذا التوجه الاحترام مهما حاولا تابعي هذه الفنون إقناع الآخرين.
تشويه الموناليزا .. منافسة أم غيرة
نختم أيضا بتساؤل حول تشويه دوشامب للوحة الموناليزا الأشهر في فنون عصر النهضة هل هو غيرة من ليو ناردو دي فنشي أم إحداث نوع من الإثارة والمنافسة والاعتراض ومحو ما يراه أجمل من مبولته.