«باسط».. هكذا يسمونه مع أنّ اسمه الكامل في هويته «الوطنية» هو: عبدالباسط. بالطبع رفقاء الدرب وخصوصاً حديثي الانضمام للشلة اكتشفوا أنّ باسط هو اختصار عبدالباسط، فـ»باسط» اسم ناسب شخصيته وعلق فيه.. حتى إنهم إذا سمعوا اسمه تخيلوا لاشعورياً حركة يديه اللامبالية وهو يحك أصبعه البنصر ببقايا شاربه المنحدر تماماً تحت أرنبة أنفه. تخاصم الشلة مرة متى يحك (باسط) شاربه، فمنهم من يقول إنه عمل تلقائي ليس له معنى فهو يمارسه حينما يسحب نفساً عميقاً من سيجارته المركزة وهو الوحيد تقريباً الذي يدخّن في الشلة، ومنهم من يقول إنه يفعل ذلك حينما يتم وضعه في كرسي الاعتراف تماماً بعد جريمة أخلاقية في الحوار، أو حينما يتم قصفه من باقي الشلة حين العثور عليه متلبساً بحالة تناقض فكري. الذي يبدو لي شخصياً هو أنّ كل تلك الحالات صحيحة، لكن العبث بشاربه يختلف في الطريقة فقط في كل حالة. ولأنّ (باسط) رجل يكاد يغرق بالتناقض فإنّ شاربه على وشك النفاد كأنه صبر دولة خليجية على دعوات الإصلاح.
حين يشتد الجدل في الشلة..كانت مداخلات باسط هي الأكثر فكاهة لأنها في الغالب خارج الجدل، ولكنها فعلاً الأقرب لروح الناس وأحلامهم العفوية. في زخم الجدل الفكري الذي كثيراً ما يحتدّ.. باسط يعتقد أنّ مشاكل البلد الحقيقية هي في أسعار سوق الخضار وفي كونه لا يستطيع الحصول على وظيفة دون واسطة، وأحياناً يعتقد أن أهم المشاكل هي الكتابة على الجدران!.
يصيبني الإحساس أحياناً أن مشكلته ليست مع الفساد.. بل لأنه لم يأخذ حصته التي يريد منه.
قبل عدة سنوات حينما جلس رفقاء الشلة لأول مرة مع باسط.. كاد الجميع أن ينفجروا ضاحكين في وجه باسط حينما يفسر مشاكل البلد بهذا الشيء، لكن مع الوقت بدأ البعض يقول بأنّ باسط هو في النهاية العقل «اللاواعي» للمجتمع.. واللاواعي هنا تعني أنه التعبير الحقيقي الباطن لرأي أغلب الناس في المجتمع. بينما مثاليون في الشلة - مثلاً - يفسرون الفساد بغياب الرقابة الشعبية واستقلال القضاء ..إلخ، كان باسط يقرأها من وحي حياته اليومية فهو يرى أن مشاكل البلد مرتبطة به، فحينما يتحدث عن أسعار سوق الخضار يتذكر خصامه الجمعة الماضية مع بائع الخضار حول سعر الطماطم، وحينما يتحدث عن فقدان العدالة في الفرص الوظيفية، هو يذكر كيف أنه طاف وسعى بملفه الأخضر ولم يتم قبوله فقط لأنه ليس له ابن عم يفزع له وهكذا. هو يتحدث عن ما يرى أسبابه بشكل مباشر في الشارع وعلى الأرض.. وأي تحليل سوى ذلك يجعل باسط يصرخ في وجهك: «لا تتفلسف».
نجم الشلة المسلي باسط.. بكل عفويته وتناقضه يمجّد «المطاوعة» كما يسميهم، فهو لا يريد أن يفهم الفروقات الطبيعية بين التيارات الدينية واتجاهاتها، كما أنه في ذات الوقت يعيش حياته بكل صخبها، مخالفاً تقريباً كل القضايا التي يحذر منها «المطاوعة» أنفسهم. فباسط الذي يحب الهيئة لديه رقم جوال خاص جعله «عابر سبيل» لكل من يريد أو لا يريد من الجنس اللطيف، وهو نفسه الذي يكره كل المذاهب والتيارات الأخرى، بينما لا يستطيع أي أحد أن ينتقد في مجلسه (جين) - شريكته المسيحية في إحدى مجموعات التحدث بالإنجليزية في بلد الابتعاث -. ولا يجد «باسط» في نفسه أي غضاضة أن يأتي للشلة وهو حديث عهد بالـ»ماريوانا» ليشتم كل من يسميهم «الليبراليين» الذين يريدون إفساد أخلاق الشباب وتغريب البلد، وهو هنا في أكثر حالاته صفاءً ووضوحاً فهو بكل انغماسه في الحياة والترف، يرفض فساد السياسة، ويحترم القيم الدينية - تلك القيم الدينية الحقيقية إضافةً للعديد من الأشياء التي صنّفها هو في هذا الإطار - ويبحث عن الحلول المتعلقة بحياته المباشرة والقضايا ذات الأمد القصير.
سجّل أحد أفراد الشلة يوماً اختراقاً مهماً لهذه المتلازمة الباسطية (نسبةً لباسط طبعاً)، حينما استطاع إقناعه بأن الحلول ذات الأمد القصير مرتبطة بالقضايا ذات الأمد الطويل، وبأنّ حياته اليومية والفساد الوظيفي مرتبط بشكل طردي بغياب الدور الشعبي في الرقابة على التشريع الإداري، وبأنّ ضياع حقوق جده في أرضهم التاريخية في قريتهم هو بسبب كل هذا وبسبب عدم استقلال القضاء أيضاً. في هذه اللحظة أغمض باسط إحدى عينيه وأدخل أصبعه في أذنه وأسدل وجهه لعدة ثوانٍ، حتى كأنه يجري تعديلاً على اللغة المستخدمة في جهازه العقلي مما يتطلّب إعادة تشغيله من جديد. قام باسط من جلسة الشلة حينها وقال وهو ينصرف بكل مهل «هذي .. يبي لها زقارة»!.