(هؤلاء الذين يقدمون التشريفات سواء كانت وسام شرف
أو جائزة نوبل لا يملكون في الحقيقة تقديمها)
بول سارتر
(1)
كنت ذاهب الى لندن يوم فازت الهندية أروندهاتي روي بجائزة البوكر عن روايتها (إله الأشياء الصغيرة - 1996) لكني، يومها في اللحظات الأخيرة، ألغيت سفري، وكلفت أحد الأصدقاء أن يرسل لي الرواية من هناك. فقد كانت الرواية قد صدرت عن دار نشر عادية - فلامنغو - لا تملك حتى اليوم موقعا على الإنترنت. رواية أروندهاتي كانت الرواية الأولى لها، مع ذلك، حصدت البوكر، الجائزة التي هي اليوم، الجائزة الأم لجائزة الرواية العربية التي أنشئت في 2007 ، والتي منذ دخلت الى عالم الثقافة العربية، زادت من معدلات طبع الرواية وإنتاجها.
فاز بالبوكر الإنكليزية منذ تأسست 1969 عدد كبير من الأسماء مثل ف.س نايبول، نادين غورديمير، سلمان رشدي، ج.م كوتزي 83 و 99، بن أوكري، ومايكل أونداتجي الكندي الذي كتب الرواية البديعة (المريض الإنكليزي). هذه أسماء لامعة في تاريخ الرواية الأنغلوفونية دون شك. لكن ثمة أسماء أخرى حصدت الجاىزة لا نسمع عنها شيئاً اليوم. لا تفعل الجوائز الشيء الكثير لمن يفوزون بها. هي مجرد جائزة تقديرية لعمل ما لا أكثر ولا أقل. صحيح أنها قد تساهم في نشر عمل الكاتب على نطاق أوسع، وتساعده على تلقي جرعات البريق التي تصنعها الشهرة. لكن ثمة كتاب لا يحبون الضوء. لا تعنيهم الدعوات وتذاكر السفر في الدرجة الأولى والمدائح التي تكال لهم بمناسبة وبدون مناسبة. ومنهم من تصعقهم الجوائز بحيث يتوقفون عن الكتابة بشكل نهائي ودون سابق إنذار.
أروندهاتي روي لم تتوقف عن الكتابة بعد البوكر. كتبت عدداً من الأعمال للسينما، كما كتبت العديد من المقالات التي تدافع عن حقوق الإنسان، وكتبت عن حقوق المرأة في العمل والحضانة وهي مشاكل تعاني منها الهند. كما أنها مناضلة شرسة ضد العنف الذي تتعرض له النساء.لكنها مع ذلك لم تكتب شيئاً منذ ثلاث سنوات عن سوريا، هي المولودة لأم مسيحية سورية وأب هندوسي. مع هذا روايتها كانت تستحق الجائزة. ورغم إعلانها عن بدءها بكتابة رواية في العام 2007 إلا أنها لم تصدر بعد. لا يعاني الكتاب في الغرب من جشع الجوائز كما هو الحال في العالم العربي. حتى أن ثمة كتاب يشتغلون أعمالاً على قياس جوائز بعينها. مثل أحدهم الذي يعمل في الصحافة ويقدم نفسه شاعراً وناقداً منذ سنوات، لكنه حين علم بجائزة - دسمة - تقدمها حكومة أبو ظبي في أدب الطفل كتب قصة للفتيان. وحين درجت الرواية بفضل جائزة البوكر العربية كتب الرواية، وفوق هذا كله يسعى منذ سنوات عديدة لأن يترجم الى الفرنسية دون جدوى. رغم أنه، على علاقة طيبة بعدد من دور النشر الفرنسية التي يعمل فيها أصدقاء له. ولا يجد حرجاً في التهجم على الجائزة لسبب بسيط وهو أن الرواية التي كتبها، ومدحها أصدقاء له، لم تصمد حتى للقائمة الطويلة. وهو صمت، نعم صمت قبل إعلان القائمة. لم يفتح فمه بكلمة، وما أن صدرت القائمة حتى إنهال على الجائزة يعدد نقاط ضعفها وخصالها غير الحميدة وأنها مستوردة وغير ذلك من كلام لا معنى له، سوى أنه يصدر عن قلب محروق وملتاع. وهذا سلوك غريب حقاً، ذلك أن الجائزة، كما قلنا سابقاً، متاحة للجميع، لكن ثمة من يعتقد أن كل ما يكتبه هو مهم وعظيم في حين أن رأي الآخرين به ربما يكون غير ذلك. ولهذا ثمة لجنة قراءة لجوجلة كافة الأعمال المعروضة أمامها وتفنيد خصالها وإعطائها القيمة الحقيقية التي لها.
والحق أن العبارة التي قالها سارتر يوم رفض نوبل؟ نعم سارتر رفض نوبل، الجائزة التي يسعى العالم إليها ولا تسعى هي لأحد. سعت له ورفضها، أوصد أبوابه أمامها. ليس هي فقط بل جائزة لينين أيضاً. الجائزة التي كانت تعادل نوبل أيام حقبة الحرب الباردة، وكان سارتر شيوعياً متطرفاً، جائزة بهذا الحجم ستنقله الى عوالم الخيال، لكنه رفضها. لم يكن سارتر يحب الجوائز وربما هذا وحده كفيل لتأكيد أنه ليس كاتباً عربياً.
(2)
ماذا فعلت البوكر بالعرب؟ فجأة تحول الكتّاب جميعاً إلى روائيين، لم يعد أحد منهم مكتفٍ بما يكتب. لا الناقد راضٍ بكونه ناقداً، ولا الشاعر يغنيه الشعر عن الفنون الأخرى، وحتى الروائيون ما عادوا يشتغلون على أعمالهم كما يجب. بل أصبحت الكتابة بهدف الظفر بالبوكر لا أكثر ولا أقل. وهذا سلوك أقل ما يقال فيه أنه مضر للأدب نفسه. فالأدب الذي يكتب على مقاس أو من أجل جوائز بعينها لا يمكن له أن يصمد ثانية واحدة بين يدي قارئ عادي فكيف بالحري بين يدي قاري متمرس وخبير. أستعين هنا بالجملة الشهيرة التي قيلت على لسان السعودية بدرية البشر من أن روايتها ( غراميات شارع الأعشى ) - كتبت من أجل البوكر - هذا على الرغم من أن بدرية تكتب منذ سنوات طويلة وهي إن حازت شهرة قبل الجائزة أو بعدها فإن سببها كتاباتها الإشكالية وليس كمية الجوائز التي حصدتها. والحق أن هذه الجملة، التي أكرر، قيلت على لسانها، تعتبر سقطة كبيرة لكاتبة مكرسة سواء كانت تكتب في حقل الرواية أو في الصحافة من خلال تبنيها قضايا اجتماعية وإنسانية.
ليس هذا اللغط الوحيد الذي أثير حول البوكر 2014 بل ثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك في نقده الجائزة ولجان التحكيم التي تتعاقب على القراءة وإصدار الأحكام النهائية. كما أن المسألة القطرية تثار كلما صدرت نتائج الجائزة. فثمة من قال إن الجائزة تعمد إلى توزيع جائزتها سنوياً بالتساوي بين الدول العربية، وهذا إن صح فهو كارثة فعلية، رغم علمي أن الجائزة لا تنظر إلى هذا المعطى باعتباره هدفاً تسعى من خلاله إلا إرضاء جميع الدول العربية التي تشكل، جوهرياً وعملياً، الدول التي تستهدفها هذه الجائزة. وبالنظر إلى الجائزة البريطانية الأم، فإن نظرة إلى سجل الفائزين بها، تمنحنا فكرة عن أنها تستهدف كل الأدب المكتوب بالإنكليزية، من كافة دول الكومنولث، وليس محصوراً فقط بالأدب البريطاني بل الإنكليزي. وهذا معناه أن لجان الجائزة المتعاقبة، لا تنظر الى الرواية بوصف كاتبها ينتمي الى دولة معينة، بل ان النظر يتم الى العمل المقدم، لا أكثر ولا أقل. طبعاً إن افتراض حسن النوايا لدى اللجان التي تشكل من أجل الجائزة العربية أمر مطلوب وضروري. غير ذلك يكون التشكيك الدائم، وهذا طريق لا يوصل إلى شيء سوى إلى الهباء.
(3)
ربما من حسن حظ العرب، أن جائزة بهذا العمق والأهمية قد وصلت لهم. فقد حفل العالم العربي في السنوات السابقة بكثير من الجوائز، التي بعضها لا يزال مستمراً والبعض الآخر توقف. لكن جائزة تقف خلفها مؤسسة وأنظمة وقوانين وشفافية لا أعتقد أن الأدب العربي شهد جائزة بهذه المواصفات غير جائزة العويس الثقافية إضافة إلى جائزة البوكر. وفي حين أن جائزة العويس لم تكن تحظى بهذا الكم من الشهرة والتأثير رغم قيمتها المادية المرتفعة، فإن البوكر حظيت بكل هذا لأنها قادمة وفي تصوراتها لأهمية التسويق التي يجب على الأدب، وتحديداً الرواية، أن تتمتعا به.
إن نظرة بسيطة إلى ما فعلته البوكر طوال السنوات السابقة. سواء لناحية تأثيرها في عالم التسويق التي حصلت على مستوى الرواية، من خلال تحفيزها دور النشر على نشر الأعمال الأدبية وتشجيعها والتسابق على الكتاب الجيد. أو من خلال تحفيز الكتاب على كتابة الرواية، أو حتى من زرعها لروح التنافس بين الكتاب العرب على اختلاف مشاربهم واهتماماتهم. كل هذا جعل من هذه الجائزة هدفاً لكثر من المتطفلين الذي لم يبرعوا في نوع من أنواع الأدب. بل إن كتاباتهم التي تحظى عادة بمديح أصدقائهم من جهة أو بعض الكتاب الذين يسعون للكتابة في الصفحات والملاحق الثقافية التي يديرونها. وجدت أخيراً من ينصفها ويضعها في الخانة الحقيقية التي يجب أن تركن بها. أعني خانة فقاقيع الهواء الأدبية وهذه لا تعلق على الجوائز إذ غالباً لا تصمد كثيراً في الهواء.