ينشغل الناس بتوافه كثيرة، أو هكذا تُصور لهم؛ فيصرفون فيها مجتمعة أوقاتاً كثيرة، لا تترك للمرء بقية وقت يستمتع فيه، أو يقضيه في إنجاز الأمور التي خطط لإتمامها، ولا يستطيع القيام بها أحد غيره. تتراكم هذه الانشغالات في جدول كل منا، إلى الدرجة التي تجعل ذهنه مشتتاً، ووقته مبعثراً، واستمرار الأوقات المتاحة المتصلة قليلاً.
يأتي زميلك ويطلب منك أن تنظر معه في عمل «مشربك» لم يصرف فيه الوقت اللازم لإتقانه؛ ويريد منك حسب اللفظ الملطف أن تطّلع عليه، وتبدي رأيك فيه. ويأتي إليك صديقك، الذي لم تره منذ زمن؛ ويطلب منك أن تقضي معه بعض الوقت «على عجل» حسب التعبيرات المستخدمة، أو ما أشبهها، دون أن يقدّر إذا كنت فعلاً مهيأ في تلك الفترة للتضحية ببعض الوقت، أو لديك المزاج لمثل تلك الأعمال، التي قد لا تناسبك ولا يناسبهم إبداء رأيك في غير وقته الكافي والملائم للاطلاع على شيء من هذا. ويرسل إليك صديق أو زميل أو شخص تعاملت معه من قبل ملفاً إلكترونياً للاطلاع عليه وتحكيمه، أو النظر في مدى صلاحيته خلال أيام قليلة. وقد يحسن بك الظن أحد طلابك، فيطلب منك مساعدته في التوجيه اللازم لإنجاز بحثه، لأنه متأخر أو لم يجد المعونة – حسب تعبيره عند غيرك – ويصر على أن يأتي إليك خلال يوم أو يومين. هكذا يكون تراكم الأعمال البسيطة، والتي يظن أصحابها أن أياً منها لا يمثل عبئاً على الإنسان؛ وهذا صحيح، أن كلا منها بمفرده ليس عبئاً، لكنها إذا تجمعت، تبتلع كل أوقاتك الممكنة، إذا سايرت أولئك الناس، التي لا تتفضل حتى بإعطائك فسحة من الوقت للاطلاع، وإبداء رأيك؛ بل تحملك وزر تأخيرهم في الاهتمام بما هو مطلوب منذ وقت مبكر. فيستعجلونك لأنهم تأخروا في التعامل مع مهماتهم.
لذا يصبح المرء أمام كومة من الأعمال الصغيرة، التي ينسى بعضها، وربما أخرها كثيراً حتى يظن بعض أصحابها بأن تأخيره إياها كان مقصوداً، واستهانة بالشخص الذي طلب المعونة فيها، إو إنجازها في الأوان الذي حدد لها. وأكثر ما يصيب بالإحراج، هو نسيان مثل تلك الأعمال المؤجلة، التي تتراكم ويحتاج المرء إلى التذكير بها، أو بتسلسل الالتزامات التي وافق عليها المرء، لكي لا يخل بها، أو يضطر إلى إنجازها على غير الوضع المطلوب.
فكيف الخلاص من هذه المعضلات المؤرقة؟ أحدهم نصحني مرة بحكمة مجربة، عندما شكوت له ضياع الوقت في مثل تلك الأمور البسيطة. فقال: خذ من الناس بحسبان! قلت: وكيف يكون ذلك؟ قال: لا بد من إفهام كثير من الناس ذوي الصبغة الأنانية، بأنهم لا يستطيعون استغفالك؛ وذلك بأن تجعلهم يتوقعون رفضك الانخراط في مناوراتهم، حتى لو كانوا من ذوي القربى أو الحظوة لديك. وعلينا أن ندرك بأن الزمن زمنان؛ أحدهما يظلك وعليك أن تأخذ عناصره بجدية، أما الآخر فهو زمن الآخرين، وهو في الجهة المقابلة. فليس له عليك من التأثير إلا بقدر ما تقبل بوجهك إليه. فكلما غضضت الطرف عنه، أصبحت في منأى عن التأثر به، أو التوجع بسببه.
تذكرت عند ذاك ما سبق أن قرأته مرة، من أن المدير الناجح هو من يترك موظفيه يتعاملون مع قرودهم، دون أن يسمح لهم بترك تلك القرود على مكتبه؛ في تجسيد واضح لرمي الموظفين مشكلاتهم على بعض مدرائهم. وهم يذهبون مستمتعين بأوقاتهم، أو أيام آخر الأسبوع بعيداً عن تلك المشكلات، التي سيتكفل بالانشغال بها ذلك المدير الذي قبل التوريط.