هل مازال التأطير الرقابي في ظل تعدد وسائط الاتصال والإعلام المفتوحة وغير قابله للترويض «فتنة ثقافية»؟.
والإجابة هنا «حمّالة أوجه» لأنها تتعلق بمُستوى المثيِرات وحاصل استجاباتها ونسبها الضاغطة أو المهمشة وهو حاصل ترتبط نسبه المختلفة وفق طبيعة ما يتعلق بها من مثير واستجابة ومدى توزيع نقاط الضغط ومركزيتها على مصدر المثير واستجابته ؛أي ما يتعلق بنوع الوسيط وأفكار ذلك الوسيط وموقف الفاعل منهما والجو الاجتماعي وممثل المعايير المطبقة.
إذا كان تأليف الكتب وما يُحسب في بابه يدخل ضمن الاعتبار بحرية «حق الاختلاف» للعقيدة الثقافية فشراء الكتاب وما يُحسب في بابه يدخل ضمن حرية «حق الاختيار « للعقيدة الثقافية، ويقف بينهما الادعاء بالحق العام بضرورة التأطير الرقابي لتمييز المُفسِد من المُصلِح من الأفكار وحماية ثوابت العقل الجمعي وعقيدته الثقافية.
ولذا فالنظر في مسألة «فتنة الوسيط الثقافي « يتعلق بمقاصد الفاعل المروّج للحق الخاص وحدود منطقه في الرفض أو القبول من معايير وحدود وضوابط الفاعل المروّج للادعاء بالحق العام.
أقول بالنظر إلى مقاصد فاعلي الحق الخاص والحق العام سنجد أن كل فاعل منسوب لحق يدعي أحقيته اللازمة بالاعتراف بالتحقق وأن الادعاء بما ينقض الإلزام بتلك الأحقية أو التشكيك بضرورتها هو باطل وإن كان الادعاء مُسوّغا أو مُرفقا بالتسويغ.
والخلاف بالتنازع على أصل الحكم ونوعه في الإدعاء بشرعية الحق وتشريعه؛ وأن الضرورة المسوّغة بالاضطرار تسبق الحق المتصف بشبهة الضرر، هو الذي يُنشئ الصراع بين حرية الحق الخاص وسلطة ضرورة فرض استحقاق الإدعاء العام؛الذي يُشرّع لمصادرة الحق الخاص دون مساءلة متى ما «ظن بشبهة ضرر». و«الظنية» هنا أثمها أكثر من نفعها ؛ فليس لأن ضررها قاصرا على أنها تقوم على معايير أحادية الحدّ فقط ، بذلك تصبح كمن يرى فضاء واسعا بعين واحدة، وأحادية حدّ المعايير تُلغي سنة الاختلاف الداعمة لتجديد المعرفة،كما أنها خداع على المستوى المعرفي.
ولا لأنها تعتمد على إنتاج حكمها على استراتيجية مقاربة الدلالات مما يفقدها صدق الواقع وزيّف ماهية جوهر ما تشرع لمصادرته فقط، فالمقاربة لا تعادل المطابفة كما أنها ليست «تكرارا لجوهر» بالترادف أو ردة الفعل، وبذلك فالحكم بروح المقاربة لمصادرة الحق الخاص مفسدة لأنها تنبني على معطى باطل، وهو في كل الأحوال مُشرّع للاستبداد الثقافي الذي يرى بعين واحدة. كما أن ضرر الظنية ينبثق من كونها وسيلة لترويج فتنة ثقافية تُدخل الجميع عنق الزجاجة؛ لأنها تستفز الحق الخاص بالتمرد عليه وسنّ قاعدة الخلاف معه.
وبذلك فحرية حق فاعل الاختلاف فتنة ثقافية باعتبار تزمت التأطير الرقابي، وحرية حق فاعل الاختيار فتنة ثقافية وفق ذات الاعتبار «تزمت التأطير الرقابي».
ولنبدأ بتزمت الضرورة التي تُجوّز منع الحق؛ أي ضرورة «التأطير الرقابي».
تنبني غاية «التأطير الرقابي» على المحافظة على « سلامة الفكر الأحادي» في حديه؛ الأعلى من خلال تجريم خيانة الاختلاف أو حدّه الأدنى من خلال التخويف من التعددية ، وكما قلت في الموضوع السابق أن المرء غالبا ما يتنازل عن حقه الخاص متى ما كان ثمن ذلك التنازل هو تحقق شعوره بالاطمئنان النفسي بين الجماعة وقوة انسجامه مع المجتمع.
كما تنبني غاية ذلك «التأطير الرقابي» على المحافظة على «مصلحة الالتزام بالوحدة الفكرية لسلطة لعقل الجمعي»، ومصلحة الالتزام تلك عادة ما تستند على اتفاق جمعي متوارث مقدس بالتبعية.
وتلك الغاية بمضمونها السابق الذي لا يخلو من ميكافيلية تسعى إلى الحدّ من الاندماج مع «التعدد الثقافي» لفاعل الاختيار وفاعل الاختلاف، والذي تعدّه سواء في حده الأعلى التوزيع بالاندماج أو «حده الأدنى» الاصطفاف الأبيض بالتعددية مُهدِدا لسلامة الفكر الأحادي ومُحرِضا للخروج على الالتزام بالوحدة الفكرية لسلطة العقل الجمعي.
وإن كانت ضرورة التأطير الرقابي تبني شرعيتها المفتوحة على أساسي تلك الغاية فهي أيضا تمد ضرورة حقها وفق تلك الغاية لتشمل التحكم في «معايير المفاهيم و الدلالات وضوابط التأويل»، لأن تهديد سلامة الفكر الأحادي للعقل الجمعي لا يتم إلا عبر التشكيك بالاختلاف أو التعددية في ثابت التعريف وثابت الدلالة وثابت قاعدة التأويل.
ومتى ما خضعت تلك الثوابت للتشكيك بالحذف أو الإضافة كما يظن التأطير الرقابي تفرّقت وحدة العقل الجمعي وضعفت قوة سلطته، وفي ذلك تمسك بالخطأ الشائع بأن «الأحادية قوة» و»الاختلاف والتعددية ضعف».
ولحماية «التأطير الرقابي» نفسه من حركة ثوابت التعريف والدلالة وقاعدة التأويل أظهر «الفتنة الثقافية» المبرر الذي يُحصن من خلاله «ثوابته» من «الحركة والإضافة» والتحصين بدورها يُشرّع لإقرار صفة التجريم وحدّ العقاب في مستوييه المعنوي والمادي، والمعنوي أكثر ضررا وصور العقاب المعنوي غالبا ما تُصنف ضمن الفتنة الثقافية كما أن وسائلها غالبا ما تبرر للحماية من الفتنة الثقافية.
«فالنبذ الثقافي» مثلا يطبق على كل فاعل وما ينتجه من مفهوم يتعدّ التعريف المُحرَر من قبل معايير التأطير الرقابي وكل دلالة تتجاوز المعيار المُقنن لحدها وسقفها من قِبل ذلك التأطير وكل تأويل يتجاوز قاعدة الضبط المحددة من سلطة ذلك التأطير.
إذن أزمة التأطير الرقابي مع حرية حق الاختلاف الفكري وحرية حق الاختيار الفكري عادة ما تتمحور حول أساسيات الفكر السابقة ؛أي معايير تحرير المفاهيم ومعايير تقنين الدلالات وقاعدات ضبط التأويل، وغالبا ما تبدأ تلك الأزمة وتنتهي بترويج التخويف من الفتنة الثقافية.
وهي أزمة لأنها تتعلّق بالتعريفات المٌقرِرة للحقائق وما تستتبعه تلك التعريفات من إنتاج أحكام إن لم تخالف مع ما يروّج له التأطير الرقابي أو تختلف عنه فهي كحدّ أدنى تصف بجواره بالتعددية لتحقيق ضمان حق الاختلاف والاختيار وذلك فيه ثورة على المركزية المقدسة لثابت التعريف والدلالة وقاعدة التأويل، لأن المشاركة في صناعة ما يُحسب ضمن الثوابت فيها تشريع لتعدّد الآلهة، وكسر لقدسية لتأطير الرقابي المحتكر لقيمة معايير الثقافة وحقائقها.
وقفة:
وفقت اللجنة الثقافية لمعرض الكتاب هذا الموسم في الاختيار «لفن الخط» لتكريم رواده،فقد بدأ هذا الفن في الانحسار لا لتراجع أهميته إنما لغياب التوفيرات اللازمة لإبراز دوره الثقافي والفني، كما وفقت اللجنة الثقافية في تصميم البرنامج الثقافي المصاحب لمعرض الرياض 2014م، فالشكر الجزيل لأعضاء اللجنة الثقافية وعلى رأسها الأستاذة حليمة مظفر.
وشكر خاص للدكتور صالح معيض الغامدي على حلّ كل مشكلة يتعرض لها أي مؤلف أو دار نشر.