كان الشعر ولما يزل ديوان العرب، تساءلوا عنه وفيه اختلفوا، مفهومًا وتفسيرًا، نقادًا، وشعراء، فلا من كتبه استيقنته نفسه، ولا من نقده فسّر كُنهه، زاحمته الرواية فما أسقطته عرش الجلالة، وقُدَاس المكانة، وغِراس المنزلة، ولا ماست سندس ثوبه. ظل الشعر مفهوما فرديًا وقدره ألا يكون جماعيًا؛ لأنه لصيق بالنَفَس قبل النَّفْس. الشعر انفعال فردي، وماهيته في غياهب الجب يلتقطه بعض النقاد والشعراء. الشعر لغة نفسية جمالية، يخفي أكثر مما يُبدي، ويُغشي أكثر مما يُجلي، يستفز مطر الأسئلة، وتقل السحاب الثقال شرب دهاق أحرفه قصيدة قصيدة، ومقطوعة مقطوعة، ونتفة نتفة. الشعر يتوارى خلف نفسه حين نريد أن نتحسس ريحه. الشعر مَيّس العرب، جذره عجب، وجذوه عذب، هو رُقية الروح واستثناء العرب، هو قاب سلاحين أو أدنى، في الشر تأنفه، وفي الخير تألفه، وفي الرثاء أصدقه. الشعر غور أرواح في روح، وسفر روح إلى روح. الشعر سلوى الحزانى، ومهوى أفئدتهم، ومثوى شجى المتأوه، ظله حرور وحروره ظل نتفيؤه، منه لا نفتأ ولا نهدأ، ومن سحره النفس سكرى وعطشى.
نشأ الشعر غامضًا واستوى قصيدًا على جودي امرئ القيس، فبكى واستبكى ووقف واستوقف، والانفعال هو عصا الشعراء التي بها يهشون على حرث الشعر فيتناسل في مآرب شتى وهم فيه بين مبتلى ومُبلى، وهو في بئر الروح يتغور، وفهمه عنا وعنهم معطل، إثمه عذب، وعنادله مآتم فرح وترح، وحسب الشعراء أمراء الكلام لهم ما ليس لغيرهم، وعليهم فوق الذي لهم، وحسب الشعر يغتاب الواقع دون أن يمسسه اللغوب، ويسمو بمن يسمو به فيتدانى كل جميل له ويتدلى.
الشعر ذروة سنام العرب ووجه، عينه الأولى وزنه، والأخرى تقفيته، والمسافة ما بين العينين كلام له معنى ومغنى، ونبضه يأتي ارتجالا أو تنقيحًا بين الدوي والندى. لا خلاف في عناصره غير أن مضامينه متشعبة وأشكاله متشجرة، بدأ عموديًا، وتدحرج في المنتصف موشحا ورجزا، وامتاح تفعيلة ونثيرة، ولما يزل البدء جاذبًا، ومازال الصراع بين القديم والحديث قائمًا، أحسنهم من كان بين ذلك قوامًا، و أسوأهم مذبذب لا إلى هؤلاء ركن ولا إلى هؤلاء سكن فاطمأن.
بدأ النقد الأدبي لغويًا وانتهى ممنهجًا له أسسه وأدواته، ويجيء النقد الأدبي تفسيرًا للأعمال الأدبية الإبداعية فيميز الجميل ويُمير المهلهل، والأدب سابق على النقد والنقد لا حق به، وهما متصلان لا ينفصلان، فمتى ما وجد النص وجد النقد، غير أن النقد لا يتأتى لأي أحد، فهو يتطلب بصرًا ثاقبًا، واطلاعا واسعًا، وبصيرة واعية.
في الجاهلية دلف النقد أسواق العرب، فكان نقدًا تأثريًا ذاتيًا لغويًا خلوا من التعليل إلا ما ندر، ثم جاء الإسلام فمنحه بُعدًا تهذيبيًا، ألغى الهوى وجنى المنى، ثم اعتنى الخلفاء بأمر الشعر والشعراء في العصرين الأموي والعباسي ففتحوا لهم الأبواب وأجزلوا لهم النوال والمآل، فازدهر الشعر وعلا نقده من الخلفاء أنفسهم أو من بعض اللغويين الذين يحضرون تلك المجالس، إلى أن جُمع التراث مدونًا بعد أن امتزج وتلاقح بثقافات من أمشاج شتى، ففتح للنقد وللشعر آفاقًا بلا مدى، فسار النقد نقدًا منهجيًا له معاييره ومناهجه التي بها لا يستقيم فيسقم، وتوارى النقد الذاتي إلا قليلا لطبيعة النقد في ممارساته الأولى ولارتباطه بالذوق أولا.
ومما سبق كله يتعذر علينا تعريف ماهيّة الشعر تعريفًا جامعًا مانعًا؛ لأن طبيعة الشعر عصية على الفهم، وتلقيه يختلف من سابق للاحق، ويبقى الشعر هو الشعر مهما اختلفوا حوله وألقوا أقلامهم أيهم يكفل مفهومه، ويظل النقد توأم الأدب شكلا ومضمونًا.