لم يستطع الرأسمال حل أزمته العميقة بالقوة ,سواء بالقمع الداخلي أم بتصدير الأزمة للخارج ,كما أشرنا في حلقات سابقة ,وقد أدرك أن استخدام أسلحة الدمار الشامل يؤدي لإبادة الجميع ,فلجأ لاستخدام كل الأساليب مجتمعة للتخفيف من أزمته من جهة ,ومواجهة آليات الانهيار من جهة أخرى.
نتناول هنا المواجهة الاقتصادية بداية ,التي تفرعت عنها باقي المواجهات:
بعد الاكتشاف الهائل لعلم الاجتماع ,الذي يفضي إلى أن التنافس هو الآلية الأساس للتطور الرأسمالي ,وأن محصلة هذا التطور تؤدي حتما إلى الاحتكار ,جيشت أوروبا اقتصادييها لإيجاد مخرج من عنق الزجاجة هذا ,فانبرى الاقتصادي البريطاني جون كينز (1881-1946م) وابتكر وسيلة سميت باسمه فيما بعد (النظرية الكنزية) مفادها أن يتم توظيف الجسم الأساسي للرأسمال في الصناعات العسكرية ,التي تتطلب تنشيط الصناعات المعدنية والمطاطية والزجاجية وصناعة الطاقة والحاسوب والكهرباء ,أي الصناعات الاخرى كلها.
لقد نجح كينز في إطالة عمر الرأسمالية، ولكنه لم يجد وسيلة لإبقاء التنافس قائما ,حيث نشأت وتوسعت احتكارات عابرة للقارات تقضي بدون رحمة على الشركات الصغيرة والمتوسطة ,ولم تنجح محاولات تقسيمها للحفاظ على التنافس لأنها تعود المرة تلو الأخرى للتوحد واحتكار السلعة، مما أدى إلى تدويل التنافس ,أي أصبح بين الشركات في الدول الصناعية بالدرجة الأولى.
إن عولمة التنافس هو ما يفسر إعلان الولايات المتحدة ,إن إنتاج شريحة للحاسوب في اليابان والتي تكلف3سنتات، هو تهديد للأمن القومي الأميريكي، لأن إنتاج ذات الشريحة في الولايات المتحدة يكلف 17سنتا.
إذا ما أجرينا مسحا اقتصاديا تاريخيا ,نجد أن الإنتاج السلعي في بداية عصر النهضة كان يدويا بنسبة كبيرة ,ثم تغير بعد اختراع الآلة البخارية والكهربائية، حيث دخل عصر المكننة وتم تسريح الآلاف، بل مئات الألوف من الأيدي العاملة، مما أدى إلى دخول النظام الرأسمالي في مأزق يهدد كيانه، ولكن التنازلات التي قدمها أمام الغليان الجماهيري، حيث أقر الحق بالضمان الاجتماعي، أي حق العمل والتقاعد والعلاج والراحة وما إلى ذلك، أخرجه من المأزق.
أما اكتشاف واستخراج النفط والمصادر الأخرى من الطاقة، وفر للرأسمال فرصة الأتمتة (الآلة الأوتوماتيكية) من جهة، والاستغناء عن الطاقة البدنية من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى تسريح الملايين من الأيدي العاملة والدخول في مأزق أشد وأخطر من السابق، ولم يفلح الرأسمال، حتى بعد الدفع بتلك الملايين في أتون الحرب العالمية الثانية، حيث جاءت نتيجتها عكسية، فاتسعت رقعة الاشتراكية، التي أجبرت الرأسمال على توسيع القائمة الحقوقية للمنتجين في الدول الصناعية وإقرار حق الشعوب في تقرير مصيرها وتحجيم نفوذ الاستعمار.
لقد جن جنون الرأسمال بعد خسارة الحرب، فنشأ تحالف بين المجمع العسكري الصناعي والكارتيل النفطي، بالإضافة إلى الطغمة المالية المتمثلة بالبنوك، مدعوما بأحلاف عسكرية مترابطة لخنق الحراك الجماهيري، وكذلك بؤر توتر دائمة لتصريف السلاح والحفاظ على الهيمنة من الانفراط. ولكي يعيق عملية التنمية في المنظومة الاشتراكية ,حاصرها اقتصاديا وادخلها في سباق تسلح محموم أرهق اقتصادها وصادر بعض مكتسباتها، بالإضافة إلى تحميلها عبء النهوض الصناعي وتحقيق الاستقلال الاقتصادي في دول التحرر الوطني.
لقد نجح الرأسمال في إعاقة التجربة الاشتراكية، ولكنه لم يقض عليها، حيث تسير معظم الدول الاشتراكية وكذلك جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في الطريق اللارأسمالي للاقتصاد، كما أن الصين بقيت على نظامها الاشتراكي السابق، وهي تسير بمعدل نمو يناهز ال 10% حاليا وهو متماسك ومرشح للارتفاع كي يكون الاقتصاد الأول في العالم في عام 2020 حسب التقارير الأميركية، بينما تعاني الدول ذات النظام الرأسمالي من معدل نمو متناقص وصل إلى أقل من 3% ومرشح للانخفاض، بل وصل بعضها حافة الإفلاس.
إن المأزق الذي يعيشه العالم الرأسمالي اليوم قد نشأ بعد اختراع وانتشار الحاسوب، الذي أزاح مئات الملايين من عملية الإنتاج وجعل حتى العمل الفني الذي يتطلب مهارات عالية رخيصا، وتعمق الشرخ الاجتماعي هذه المرة بما لا يقاس، حيث تركز الصراع، ليس بين المالك والمنتج وحسب، إنما بين نفر قليل من المالكين لا تتجاوز الـ 1% عدديا وبين سكان الأرض قاطبة، وهو من العمق بمكان ,حيث لا يمكن تصور الخروج منه، ولذلك شن الرأسمال حملة مسعورة بواسطة الإرهاب الدولي، فهو أجبن من أن يواجه الحراك الجماهيري مباشرة، وبدت بوادر تراجعه واضحة من خلال رضوخ زعيمة المافيا الرأسمالية، الولايات المتحدة للفيتو المزدوج الروسي – الصيني لثلاث مرات متتالية والالتزام بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمواجهة السياسية، أما اقتصاديا وهو الأهم، هو القرار الأميركي بتحويل 30% من أسهم البنوك إلى ملكية الدولة والذي سوف ينسحب على جميع القطاعات الأخرى ويتم تحولها تدريجيا إلى ملكية عامة.