قررتُ قبل أشهر تنفيذ خطوة طالما حلمتُ بها، وهي مواصلة الدراسات العليا في تخصص «الفلسفة». ومن الطبيعي أن يبحث طالب العلم عن التخصص الذي يحبه في وطنه، قبل أن يلتفت إلى غيره من الأوطان.
تفحصتُ بدقة متناهية كلَّ الأقسام والتخصصات المتاحة في الكليات والجامعات والمعاهد والأكاديميات المعنية بالدراسات العليا في المملكة، لعلّي أجد تخصصًا قريبًا أو مرادفا أو مماثلا لهذا التخصص. لم أجد إلى ذلك سبيلا كما توقعت؛ فجاءت فكرة كتابة هذا الموضوع المختصر، الذي أكتبه في وقت تختلط فيه مشاعر فرحي بوصول إرهاصات قبولي المبدئي في جامعتين عربيتين عريقتين، مع مشاعر حزني لعدم قدرتي على تحقيق حلمي بدراسة هذا التخصص في بلادي الغالية.
حُرمنا من دراسة الفلسفة في بلادنا، كما حرمنا من أشياء أخرى كثيرة مشابهة وغير مشابهة، تفردنا بالحرمان منها دون كل الشعوب، بحجج واهية أزكم أنوفنا بتكرارها جمعٌ من المنتمين لكيان فكري كرتوني أوهن من بيت العنكبوت!. إن سيطرة الببغاوية والتبعيّة والتعويد على التقليد والتلقّي بالتلقين الفارغ، هي السبب الجوهري في استمرار سيادة الناجحين في ترسيخ تلك الببغاوية التقليدية العمياء وإشاعتها بين الناس، في مجتمعات العقول المستسلمة الخامدة الجامدة فكريًا، التي لا يجرؤ أحد من أبنائها -إلا ما ندر- على تحريك المياه الراكدة في مستنقعاتها.
والفلسفة تعمل على عكس ذلك - أي على تنمية الحس النقدي والمهارات العقلية التأملية التحليلية العميقة؛ أو فلنقل: تعليم الفلسفة يؤهل الإنسان لبلوغ منزلة عزيزة، ويؤدي به إلى مرحلة الاستقلال السامي، فلا يقبل ولا يرفض فيها أيَّ شيء إلا ببرهان بيّن مقنعٍ لعقله هو، لا لعقول غيره من الناس وإن كثروا.
تُدرّسُ الفلسفة اليوم في جامعات عديدة في دول العالمين العربي والإسلامي، ولم يمنعها أحد من المسؤولين عن التعليم في تلك الدول بحجة أن تدريسها سبب في اتجاه الناس إلى ما يخشاه المعارضون لتدريسها في بلادنا، بل وجدنا العكس هو الصحيح؛ فكل ما يخشاه المعارضون زاد واستفحل بيننا، مهما حاولنا تجاهله بدفن رؤوسنا في الرمال..
لقد انتشرت أبشع السلوكيات وأشنع التوجهات بمختلف ألوانها في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم، كردة فعل طبيعية على الحرمان من حقوق إنسانية عديدة مشروعة في كثير من مناحي الحياة، ومنها التعليم، وموضوع هذه المقالة مثالٌ من عشرات الأمثلة!!
بقي أن أقول: الفلسفة هي أم العلوم، وإليها تنتهي جميع مجالات المعارف الإنسانية وترتمي في أحضانها؛ وليس من المعقول ولا المقبول منطقيًا أن يستمر حرمان أبناء مجتمعنا من دراستها وتعلّمها، ونحن نعيش في عصر تخوض فيه الشعوب أشرس معارك التنافس في ميادين التقدم والإبداع والنجاح والنهضة والإنتاج البشري المثمر بمختلف أشكاله.. إننا بحاجة ماسّة إلى تنمية المهارات العقلية التأملية الشاملة، وفتح الآفاق الذهنية أمام الناشئة بلا حدود، ليتعمقوا في النقد والبحث العميق في أصول الأشياء وغاياتها، وبذلك يستطيعون رفع راية الوطن خفاقة في كل المجالات.. لن يتحقق ذلك المجد الذهني لأبناء مجتمعنا بالشكل الصحيح المطلوب المفترض؛ إلا بإطلاق سراح العقول من سجون التقييد والتضييق.
آمل أن يصل الصوت إلى من بيده الحل والربط في أجهزة التعليم وغيرها، فيصدر القرار الجريء الذي طال انتظاره، وهو فتح أقسام خاصة بالفلسفة في كليات الآداب السعودية أو في بعضها على أقل تقدير، أو إنشاء معاهد أو مراكز متخصصة بتدريس هذا العلم العظيم العريق!.
إن اعتراض البعض على تدريس الفلسفة ناتج عن الخوف منها، والخوف منها ناتج عن الجهل بها، والجهل بها لن يزول إلا بتدريسها في جامعاتنا على الأقل، وهذا لا يعني الاقتناع والاكتفاء بذلك والتوقف عنده، فالأفضل والمأمول مستقبلاً هو إقرارها كمادة أساسية تدرّس في المرحلة الثانوية، كما هو الحال في كثير من دول العجم والعرب والمسلمين.