في السنة النبوية المشرّفة يستخدم الجنون للدلالة على معنيين:
الأول: ضد العقل التكليفي؛ أي: المتصل بوجوب التكليف، وهو: التمييز الذي يعرف به الإنسان معنى الأمر والنهي ويفترق به عن الحيوان. حيث يدل الجنون على غياب القدرة العقلية التي يكون بها الإنسان قادرًا على فهم الشرع، ومعرفة الأمر والنهي، وتحصل به الإرادة للفعل (= النية). وفي هذا المعنى جاء الحديث المشهور: «رُفع القلـم عن ثلاثة: عن النائم حتى يسـتيقظ، وعن الصغـير حتى يكبر، وعن المـجـنون حتى يَعقِـل أو يفيق».
فالجنون بهذا المعنى مانع من موانع التكليف، لانتفاء القدرة على الفهم، والإرادة على جهة القصد؛ الذي يرجو به الإنسانُ وجهَ الله وثوابه، فإنّ الأعمال العبادية مرهونة بالنية، وهي إرادة رضوان الله وثوابه. وهو ما يمكن فهمه من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . لأنَّ من شروط التكليف أن يكون المكلف قادرًا على فهم النص الشرعي، وهو خطاب «وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال. والقدرة على الفهم تكون بالعقل؛ لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه يمكن الامتثال».
ولو تأملنا الحديث الذي استشهدنا به آنفًا لوجدنا ارتفاع التكليف والمؤاخذة الشرعية مرتبطًا بعلل ثلاث، هي: النوم، والصِّغر، والجنون، وكل هذه العلل تشترك في كونها غيابًا للعقل؛ وإن تفاوتت في علاقتها بالإنسان.
وإذا توسعنا أكثر في فهم تلك الصور وجدنا المؤاخذة ترتفع عن صور أخرى تتصل بشكل أو بآخر بمستوى من مستويات غياب العقل، وهي: الجهل، والنسيان، وما استكره الإنسان عليه من فعل أو قول أو صمت، كما جاء في الحديث الشريف المشهور. كما أنه لا قبول من حيث المجازاة الشرعية والثواب لعمل بلا نيِّة ولو كان صوابًا، لعدم تحقق المقصدية فيه. لأنّ إدراك معنى الفعل ومقصديته، وارتباط وقوعه بإرادة ذاتية واعية، على وجه معين، وغاية محددة، حالة من حالات العقل، وغيابها غياب عن مستوى من مستوياته.
أمَّا المعنى الثاني للجنون؛ فهو: أقرب إلى المعنى الذي ورد في القرآن الكريم آنفًا، تبرزه/تصنعه الثقافة، ويتمثل ذلك في الحديثين النبويين التاليين، وهما:
- روى أنس بن مالك وأبو هريرة -رضي الله عنهما- قالا: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، إذ مر رجل فقال بعض القوم: مجنون؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما المجنون المقيم على المعصية، ولكن هذا رجل مصاب».
- وروي: «أنَّه صلى الله عليه وسلم رَأى قوماً مُجْتَمعين على إنْسَان، فقال ما هذا؛ فقالوا: مَجْنُون. قال: هذا مُصَاب! وإنما المَجْنُونُ الذي يَضْرِب بِمَنْكِبَيْه، ويَنْظُرُ في عِطْفَيه، ويَتَمطَّى في مِشْيَتِه».
ففي الحديثين النبويين ينتفي حضور الجنون اسمًا دالٍّ على المرض العقلي ويحل محله اسم «مصاب»- ووصف «مصاب» ألصق في الدلالة على المرض العقلي من الجنون- ويُحصر الجنون في مفهومٍ ذهنيٍّ تصنعه الثقافة فحسب. وهذا المعنى - برغم تحديده الظاهر- ذو طبيعة إشكالية إذ ينفتح على التأويل، بحسب تَكَوّن المعرفة وتراكماتها، وما يتصل بها من زمان ومكان، وبحسب الموقع الذي يتمّ من خلاله تلقي ما يوصف بالجنون. مما يجعل من الحمولات الدلالية للجنون واسعة ومتحررة ومتحركة، شأن النشاطات البشرية/الاجتماعية.
في النصين السابقين - مثلاً - يرتبط الجنون في الأول منهما بالدلالة الشرعية، أي: المعصية دون النزوع عنها جزئيًّا بالاستغفار أو كليًّا بالتوبة (الإصرار على الإثّم)، وهو ما عبِّر عنه الحديث بـ: «المقيم على معصية الله».
وفي الثاني تنحصر دلالة الجنون في المعنى الخُلُقي، وهو: الكِبْر الذي تأتي الإشارة إليه من خلال بعض علاماته المائزة في المخيال العربي: يَضْرِب بِمَنْكِبَيْه- يَنْظُرُ في عِطْفَيه- يَتَمطَّى في مِشْيَتِه.
كما يأتي الجنون في نص آخر يُروى عن النبي(ص) وصفًا لنقيض الموصوفين به في الحديثين السابقين، وهذا جزء من طبيعة الجنون المتحرّفة، والنص هو:
- «اذكر الله كثيرًا؛ حتى يقولوا: مجنون».
إنّ العلاقة بين الفرد والدين الإسلامي تنشأ على أساس من إعمال العقل. ولكنها تلتبس في مستوى من مستويات الشعور الجمعي/ العقل الجمعي (سق محدد من المعتقدات، والمشاعر العامة، لدى أعضاء المجتمع) - الذي يشكل وعي أكثر الناس- بحالة الجنون، لأنها تدفع الفرد إلى شيء من الاستقلالية (=العزلة)، وتصرفه عمَّا ينشغل به الكثرة ويطلبونه من أمور المعيشة وزينة الحياة الدنيا؛ فالاختلاف هنا راجع إلى أنّ الوصف بالجنون صادر من موقع ثقافي يرتهن لقيم مغايرة لقيم النبوة، وهو موقع: أكثر الناس الغافلين الساهين؛ مما جعله يتناقض مع الحديثين السابقين. لكن استحضار سبب الوصف بالجنون وموقعه، يجعل التناقض ظاهريًّا فقط. فالثقافة بطبيعتها متغيرة ومتنوعة، ومن خلا لها تتأسس مواقع التلقي، ويتشكل مستوى التفاعل وطبيعته؛ ومن ثمّ يتعيَّن الجنون في مقابل المعروف- والمشهور، الذي يُؤَوَّلُ بـ (العقل). وإلا فإن ذكر الله – عند الذَّاكرين- دواءُ الجنون كما قال أبو مسلم الخولاني.
ومن المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البُلْه»، فلا يُراد بالبُلْهِ الذين لا عقول لهم، لكن يراد به: البُلْه عندَ أهل الدنيا؛ لقلة اهتمامهم بما يهتم به أهلها، وهم أكياس في أمر الآخرة، قال أبو جعفر الطحاوي: «ذكرت هذا الحديث لأحمد بن أبي عمران، فقال: معناه معنى صحيح. والبله المرادون فيه، هم: البله عن محارم الله عز وجل، لا من سواهم ممن به نقص العقل بالبله». وسئل الأوزاعي عن معنى الأبله في الحديث؟ فقال: «الأعمى عن الشر البصير بالخير».
ولذلك قال الحسن البصري يصف من لقي من الصحابة رضوان الله عليهم: «أدركنا أقوامًا لو رأيتموهم لقلتم مجانين! ولو رأوكم لقالوا شياطين!». وسأل الخليفة عمر بن عبد العزيز السائب بن يزيد: «هل رأيتَ أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزر الرداء، أو يرتدي الرداء، ثم يخرج؟ قال: نعم! قال: لو صنع ذلك أحد اليوم لقيل: مجنون!..». وكذلك قول نافع مولى عبد الله بن عمر: «لو نظرت إلى ابن عمر؛ إذا اتبع أثر رسول الله لقلت: هذا مجنون»، و«قال: كان ابن عمر يتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتم بها، حتى خيف على عقله»! وغيره كثير، وذلك راجع لاختلاف القيم التي يرجع إليها كل فريق. وهم عرب يجرون في استخداماتهم وتعبيرهم على مجرى العرب في كلامهم.