ظل الاتجاهان (الإنشائي والسيميائي) السائدان في دراسة السرد العربي يهيمنان على المقاربات النقدية للنصوص السردية، وذلك لما لهما من قوة تمثلت في وضوح المفاهيم، ونجاعة التطبيق، ثم دخلت عربيا - قبل عقد واحد تقريبا -التداولية محاولة شق طريقها في الدرس السردي، وكانت البداية من القلة والعثرات بحيث جعلت الباحثين يخشون الاقتراب من الأجناس الحكائية وفق منظور الآليات التداولية.
وكنت كتبت قبل أكثر من سنتين مقالة عنوانها (التداولية تغازل السرد) ونشرتها في ثقافية الجزيرة، وحينها لم تكن الدراسات التي سأتحدث عنها في هذه المقالة منشورة، وكانت المنجزات أقرب إلى الغزل السردي التداولي منها إلى المنجزات العلمية التي ترسم الطريق وتوضح المعالم .
وقد أشرت في تلك المقالة إلى دراستي محمد نجيب العمامي عن (مقامة البديع وقصة الغيطاني) بوصفهما مغامرة أولى، لكن هاتين الدراستين لا تكشفان عن تمكُّن، فقد كانت هيبة البحث من هذا المنهج بادية من خلال الآليات التي حاول العمامي تفعيلها، إذ لم نجد درسا تداوليا حقيقيا يفيد من منجزي أوستن وسيرل حول أفعال الكلام لا من ناحية السياق ولا من زاوية المقصد، وظهر حديثه عن متضمنات القول ضئيلا، وكانت المبادئ التداولية المتمثلة في مبدأ التعاون وقواعد التأدب غائبة، هذا بالإضافة إلى أننا على الصعيد الحجاجي لم نعثر على محاولة منه لبيان أنواع الحجج المستعملة في النصين، ناهيك عن أن دراسة العوامل والروابط الحجاجية غائبة، وهكذا المناويل والأقطاب التلفظية . لقد كانت المحاولة أقرب إلى الاجتهاد منها إلى الدرس التداولي المنهجي .
لكن الإلحاح في الطرق عند بعض الباحثين قَدَّم فتوحات جديدة في هذا المسار، فقد نشر الطاهر الجزيري أطروحته للدكتوراه التي عنوانها: ( الحوار في الخطاب : دراسة تداولية سردية في نماذج من الرواية العربية الجديدة) عن دار آفاق عام 2012م، ولم تكن هذه الأطروحة خاضعة للاجتهاد الشخصي، كما في منجز العمامي، بل سمع فيها الجزيري صوت الآخر المتمثل في المشرف محمد الناصر العجيمي ولجنة المناقشة التي على رأسها محمد الخبو وعبدالعزيز شبيل والبشير الوسلاتي، مما جعل العمل أكثر إحكاما، إذ امتحن الباحث في هذه المغامرة كثيرا من المفاهيم التداولية محاولا تجربتها على النصوص السردية.
لقد كان الدرس التداولي فيها يسير جنبا إلى جنب مع الخط التسريدي، فهو إن درس هيمنة السرد على الحوار لم يُغفل حركيته في الخطاب، بل تأمل تفتت الأقوال على صعيد المنحى التداولي، وإن عرضا لوظائف الحوار وضع عينا على السرد وعينا على المنهجية التداولية ليسمي المبحث: وظائف الحوار في الخطاب بين الاستقلالية عن السرد والتبعية له، وهنا يبرز التنازع البويطيقي التداولي على أشده.
إن الوظيفة الحجاجية للحوار – التي عقد لها مبحثا مستقلا - سواء أكانت توافقية أو خلافية قد أبرزت الجانب الذرائعي بشكل لافت في منجز الجزيري، وهي فطنة تحسب لهذا الباحث، وتؤكد أن العمل حظي بصبر وأناة وتدبر.
ويغري السرد مسعود صحراوي، وهو التداولي المشهود له بالخبرة في هذا المجال، فيكتب مقدمة لكتاب أنجزه محمود طلحة عنوانه : ( تداولية الخطاب السردي: دراسة تحليلية في وحي القلم للرافعي) وفي هذه المقدمة يكيل صحراوي الثناء لتلميذه كيلا، فهو عنده « وفق في اختيار مدونته، واستطاع أن يشحذ أدواته البحثية.. ونجح أيضا في اصطياد الظواهر التحاورية والحجاجية ... وكان ملتزما التزاما بالمنهج التداولي، وكان ممسكا بزمام مفاهيمه وأدواته الفنية ... إلخ « ( تداولية الخطاب السردي ص4 وما بعدها).
عُرِف مسعود صحراوي من خلال التداولية منذ أن نشر كتابه (التداولية عند العرب ) ولا نشك في بصر صحراوي بمفاهيم التداولية وآلياتها، لكن مسعود صحراوي لم يكن أبدا - في أي منجز من منجزاته - قريبا من عالم السرد لا في منهجه الإنشائي ولا في المقاربات السيميائية التي واجهته، وهذا التاريخ الذي نشير إليه هنا هو ما جعل هذا الناقد وتلميذه يقعان في مأزق كبير تمثل في كون الدراسة تتعامل مع السرد بعيدا عن خصائص جنسه، وتلك هي معضلة هذا الكتاب.
لقد أصم الدرس التداولي أذنيه في هذا المنجز عن كل خصيصة سردية، فغرق العمل في دراسة مقام التلفظ ومقاصد الخطاب وخصائص التحاورات، دون تعانق إنشائي (بويطيقي )يسهم في كسر الأحادية الجامدة التي لفت هذه المقاربة النقدية .
ثم يأتي سعيد جبار هذا الناقد الذي له باع طويل في السرد منذ أن أصدر كتابه (الخبر في السرد العربي: الثوابت والمتغيرات ) ذلك الكتاب الذي كانت الدراسة الإنشائية مع شيء من الأسلوبية مناصه في مقاربة أعمال سردية راوحت بين الأليف والغريب والعجيب، وقد تمحَّضت مدونة بحثه في نتاج ابن الجوزي ا لمنوع بين المقامات، وكتب أخرى، مثل (المدهش ) و(روح الأرواح ) و(ذم الهوى) وغيرها .
بعد ذلك أعقب جبار هذا العمل بدراسة لاحقة اشتغلت على أنساق التركيب في السرد العربي مع التركيز على مفهوم التوالد السردي في محاولة لكشف تجلياته الأساسية. ومع طول الصحبة مع هذا الجنس الأثير، آثر جبار أن يدلف إلى التداوليات ؛ ليضع بصمة خاصة في هذا الطريق الذي لا يبدو لاحبا، فاختار ثلاث مدونات متنوعة هي كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ والسيرة النبوية ورحلة العياشي.
وكان القاسم المشترك بين هذه الأعمال هي أنها تقوم بحكاية ما حدث على أرض الواقع، فأسامة بن منقذ يكتب سيرة ذاتية يؤرخ فيها لمراحل من حياته، وهذا ما أعان الباحث على مقاربة التخييل المنطلق من المساحة الواقعية في رغبة منه لفك التواشج بينهما.
وفي السيرة النبوية التي تنسحب إلى مربع التاريخ والواقع أكثر من انزياحها إلى عالم التخييل رصد الباحث الترهينات المتتابعة للسيرة من خلال أزمنتها المتوالية، ومع المعجزة النبوية انفتحت كوة دخل جبار مهتديا بضوئها ليتلمس بعض الجوانب المخيالية، وقد ساعده على ذلك أن طرفا من تلك الأحاديث التي تحكي عن المعجزات النبوية في سندها كلام.
ولا تختلف الرحلة العياشية عن اعتبار ابن منقذ في كونهما يعتمدان السرد بضمير المتكلم، لكن رحلة العياشي للديار المقدسة تميزت كما يقول الباحث : « بالتداخلات الخطابية بين السرد والوصف والتقرير، واشتغال التأويل إلى جانب السرد والتوثيق، .. وتكوُّن النص من خليط من الخطابات فتح الباب أمام تخييلية خاصة تنكشف من خلال الوعي الحاضر للرحالة – السارد وهو يتذكر وقائع الرحلة في زمن لاحق، ويعمل على وضع نسق خاص لها يفي بالشروط المعرفية لتلقيها « (من السردية إلى التخييلية ص8) .
ولأن المقاربة تحتاج إلى إطار نظري يدعمها ويمكِّن من ضبط الأدوات والآليات فقد عقد في سبيل مد الجسور بين السردي والتداولي بابا عرض فيه للإجراءات الفاعلة في تطبيقه، ذلك أن الباحث في أي عمل لن يفعِّل كل الجهاز المصطلحي، وإنما سينتخب منه ما يراه ناجعا ومستجيبا لنصوصه المختارة .
المشكلة الكبرى في عمل سعيد جبار تكمن في العنوان الذي اختاره لكتابه الصادر عن دار رؤية عام 2013م، إذ سماه (التخييل وبناء الأنساق الدلالية : نحو مقاربة تداولية )، لن أتناول - هنا - كون العنوان غير صادق مع مادة الكتاب، فتلك من الهنات المعتادة، لكن المعضلة التي أربأ بسعيد جبار أن يفعلها هي أنه نشر الكتاب بنصه وفصه في العام نفسه تحت عنوان آخر هو (من السردية إلى التخييلية : بحث في الأنساق الدلالية في السرد العربي ) عن دار ضفاف .
إن هذا العنوان المغاير يعلن أن الكتابين مختلفان، فلا مقاربة تداولية في العنوان الثاني، ولا سرد في العنوان الأول، ويقود حسن الظن إلى أن سعيد جبار لم يهدف من هذا الصنيع إلى الحصول على المال بخداع من يشتري الكتاب الأول ثم يشتري الكتاب الثاني ظانا أنه مختلف، وقد وقعتُ في ذلك، ومرت عليَّ الحيلة، إذ لن يتمكن أي باحث من اكتشاف هذا التدليس مهما بلغ ذكاؤة، ذلك أن الكتاب ذا العنوان الثاني قد حمُي بالتغليف، بحيث لا تستطيع قراءة مادته واكتشافه إلا إذا خنت الأمانة ومزقت التجليد المانع من التعرف عليه، وليست تلك سمات طلاب العلم، فكيف ستتفطن إذن .
كان التغليف الحامي للكتاب أبيض شفافا يوضح الرسومات التي على صدره، ويقدم رؤية عنه من خلال فقرتين قصيرتين كتبتا في الخلف، لكن الذي يدفع إلى سوء الظن بالإضافة إلى تغليف الكتاب هو أن الكلام المكتوب في الخلف يختلف تماما عن الكلام المكتوب على خلفية الكتاب الأول، مما يجعل القارئ لا يشك أنهما كتابان مختلفان مع أنهما في الواقع كتاب واحد، فهل بقي مجال لحسن الظن !!
وعلى كل حال فجهد جبار التداولي السردي في هذا الكتاب لا ينكر ومع تقاطر الدراسات أصبحت التداولية خيارا استراتيجيا قادما في التعامل مع السرد، وهذا ما جعل لها نصيبا واضحا في الملف الصادر عن وحدة السرديات بجامعة الملك سعود عام 2013 م، تحت عنوان ( التشكل والمعنى في الخطاب السردي )، ويضم العمل عشرين بحثا، تولى الإشراف على إخراجها معجب العدواني وأحمد صبرة، وداخل هذه الضميمة المتنوعة في مناهج المقاربة يطل المنهج التداولي برأسه من خلال دراستين احتوتهما هذه الإضبارة، إحداهما قدم فيها محمد مشبال بحثا عنوانه (السرد والحجاج ) وسعى فيه إلى رصد فعالية الدرس الحجاجي وعلاقته بالموقف والسياق عن طريق تقديم معالجة تداولية لرواية بهاء طاهر (الغروب) . أما الأخرى فكانت لعلاء عبد المنعم إبراهيم، وعنوانها( بلاغة الخطاب الحجاجي : قراءة نقدية للشخصية الحجاجية في رواية نيويوك80 ليوسف إدريس )، وفيها درس الباحث المسار الإقناعي الذي تجلى بين الآليات المنطقية وأعوان السرد .
لقد أضحى التواشج السرد ي التداولي بهذه المنجزات النقدية المتنوعة أكثر متانة ووضوحا، إذ تمكنت تلك الأعمال - التي شكلت منارات مضيئة - من تعبيد الطريق ورصفه، بحيث أضحى جاهزا للسير فيه بعد افتتاحه رسميا .