أنا لا أعرف د. عثمان الصيني. أمي تعرفه، كما تعرف القصيبي وغاندي وشيللر والحريري والشقيري.
صدقوني أنا لا أعرف د. عثمان الصيني؛ لم أره، ولم أجلس معه، ولم أسمع صوته.
ولكن سلمى لاغرلوف رأته وهي في طريقها إلى ستوكهولم؛ لتستلم جائزة نوبل، وجلس معه فرانسو كيلي، وسمعت ماريان لودورير صوته الواثق يعبر مدرستها في باريس ذات صباح.
عندما قادتني خطاي إلى جنان الله في الأرض، وسمعت موسيقى أنهارها الدافئة، قالت لي ليندغرين إنه حارس الطفولة مثلها، وأمي تقول إنه حارس أشياء كثيرة، منها حقوق فكر المبدعين، تلك اللحظة لم أستوعب ما قالته أمي.
قلت لكم أنا لا أعرف د. عثمان الصيني، لكن أمي تقول إن هناك رجالاً من نور من وطني يحملون مشاعل الفكر، وهو أحدهم. هناك آخرون مع أمي يعرفون د. عثمان الصيني؛ فالشمس التي ترى كل صباح ملامح البسطاء الذين يمرون من تحت أشعتها اللاهبة حاملين في أيديهم مناجل همة الحياة، تعرفه، وتعرفه أيضاً نوافذ النهارات التي نثرت فيها أحلامي، وأنا أقرأ ملامح أناس البحار بعيدة، وكان يراني من خلالها، والصغار الذين نثر لهم حكاية (ليان في إجازة)، والمخترعون الناشئون الذي ستمر بهم فيزياء المستقبل يعرفونه أيضاً، وأولئك الذين وصفهم بوشكين بأنهم خيول التنوير، مشيدو جسور الإنسانية بين الحضارات والثقافات يعرفونه أيضاً.
الكسالى والمخادعون والهلاميون يعرفون د. عثمان الصيني جيداً؛ لذلك يهربون عندما يرونه. رأيت أحدهم ذات ظهيرة، وبعد تلك الظهيرة لم أره. تقول أمي: عندما يسمعون اسمه يصيبهم هلع فيهربون.
أمي قالت إنه ردَّد ذات صباح قصيدة درويش (أنا عربي)، فردد الكون عربي، عربي، عربي، وفاح عبق أصيل، وانبثقت من كل الزوايا لوحات فاتنة، تحمل أبجدية الضاد.
قلت إنني لا أعرف د. عثمان الصيني!
ولكنني أعرف دموع عينَيْ أنثى تشبهني، بكت عندما أخبرتها الريح بأن د. عثمان الصيني سيترك أحلامها، وأحلام فريدريكا، وتنويريات العالم، ويرحل. تلك اللحظة عرفته أنه واحد من القلة الذين يمرون بالأمكنة ليزرعوها أوركيدا وأقحوان، وينثرون فيها إنسانية الطفولة وفلسفة الرائع والجميل، وأنه من العقول التي ترى ما لا يراه الآخرون، ويمرون على الأرض كل قرن من الزمان، وربما أكثر، وممن يركضون باتجاه طرق لا يعرفها غيرهم.
الآن عرفته، فقد كان يتأملني وأنا أبحر في صباحات بعمق ومتعة في بحار (الترجمة) العميقة التي تشبه بحار الشمال التي يكسو شواطئها نثار الثلج، كان يلقي عليّ كلمات تحرضني على الإبحار أكثر في قسمات تلك الوجوه، والإنصات إلى موسيقى أرواحهم وقصائدهم، وتأمل رقصات أجسادهم.. الآن عرفته، إنه د. عثمان الصيني الذي ألقى بي في حقول خيول التنوير لأكون فرس تنوير.