استثمار السيولة النقدية في المصارف العربية ظاهرة غير مألوفة حتى وقت قريب وخاصة في مجال الثقافة. فأموال الناس والشركات التي تودع في المصارف، المصارف لا تستخدمها سوى لعمليات الادخار أو لاستيراد بضائع لهذه الدولة أو تلك.
لم يخرج عن هذا الإطار سوى رجل الإقتصاد المصري طلعت حرب باشا، الذي له تمثال في شارع رئيس من شوارع القاهرة. طلعت حرب باشا رجل الإقتصاد المصري هو رئيس مجلس إدارة بنك مصر الذي فكر في إستثمار السيولة النقدية لمصرفه كي يؤسس ستوديو مصر السينمائي من أجل تأسيس صناعة سينما مصرية حين أدرك أن هذا الفن الجديد الذي دخل عالمنا العربي آتيا من الغرب على صهوة جواد أبيض مبشرا بالقفزة الحضارية .. قفزة الفن السابع، سوف يكون له شأن ثقافي وإجتماعي وإقتصادي.
عبر سنوات طويلة ظهر في تونس شخصية ثقافية سينمائية مرموقة هو الشاب «طارق بن عمار» الذي وضع أسس القاعدة المادية للإنتاج السينمائي. فأنشأ مخابر في تونس وأخرى في فرنسا وشغل تقنيين وفنيين من تونس الحبيبة للنفس. وذهب إلى أبعد من ذلك حين بنى مدينتين للسينما واحدة في بن عروس والثانية في الحمامات.
عندما تدخل مدن السينما هذه وترى عظمة الديكورات التي أنشأت من أجل تصوير أعمال سينمائية عالمية عملاقة تشعر بقوة هذه المدن ومتانة العملية الصناعية والإنتاجية فيها. مرات كثيرة زرت المدينتين، زرتهما بدون حركة تصوير وزرتهما أثناء عمليات إنتاج وتصوير سينمائي. شعرت أنني أمام صناعة سينمائية مدهشة. كانت عندي زيارات لمدن سينمائية عدة وأعترف بأن صناعة السينما في تونس لا ترتقي فقط إلى مديات مدن سينماعالمية بل تتفوق عليها وهي إقتصادية في ذات الوقت قياسا بمستوى المعيشة في تونس، لذلك تلجأ شركات إنتاج سينمائية عملاقة للعمل في تونس كطبيعة وفي مدينتي السينما فيها بل وأكثر من ذلك أن العمليات المخبرية هي مخابر نظامية فتقوم الشركات العالمية بإظهار وطبع أفلامها في تونس أيضا. لقد أطلعت على خمس وأربعين فيلما سينمائيا عالميا تم تنفيذها في تونس، والمشاهد لا يظن أنها صنعت في تونس من ألفها إلى يائها. نعم صورت وتم تصنيعها في تونس.
اليوم تغير النظام العالمي للعرض السينمائي وسرعان ما تبدلت صيغ العرض في العالم ولم يعد فيلم السليلويد مقبولا في صالات السينما في العالم. أظن أنه سوف يركن على الرفوف. ويصبح من مكونات الذاكرة البشرية، وأيضا سيتم نقلها للنظام السينمائي الجديد الذي باشرت أوربا وأمريكا بإستخدامه وسوف يصبح هو الفورما المعتمده وإسمه «DCP - Digital Cinema Package» هذا النظام الذي لن يسمح بإستنساخه ولا سرقته ولا حتى تصويره في الهاتف الجوال إذ يمتلك سحرا تقنيا يحول دون تحرك مافيات الأفلام والسوق السوداء، بادر طارق بن عمار لتحويل مخابره وستوديوهاته ومدنه السينمائية لتأسيس نظام إنتاج هذه التقنية العالمية التي هي الآن سائدة في العالم.
طارق بن عمار، شخصية ديناميكية. عاشق مغرم بالسينما. مثقف. شخص مؤثر ومرموق. تحبه إدارات المهرجانات وتعتبر حضوره كسبا لها.
هذه الشخصية السينمائية الصناعية لم يؤسس للسينما قاعدتها في تونس لكي تصبح موضع إستقطاب شركات الإنتاج في العالم فحسب، بل يتيح للشباب في تونس تصنيع افلامهم في مدنه السينمائية ومخابره. يشعر أنه معني بهذا العالم السحري، ولذلك فإن قدرته عبرت تونس نحو أوربا ليصبح مؤثرا في واقعها السينمائي.
التمثال الذي نصب لطلعت حرب باشا في أهم شوارع القاهرة يستحقه طارق بن عمار حقا، وبعد أن زرت مدنه السينمائية للمرة العاشرة وزرت مخابره والتطورات التقنية فيها والتحضير للآتي من التقنية السينمائية في العالم. تجعلني أشعر بالإمتنان أن في عالمنا العربي شخصيات تمر في التاريخ لن تتكرر ولا يمكن إستنساخها لأنها متفردة في مواصفاتها.
طلعت حرب باشا في مصر وطارق بن عمار في تونس تمكنا من تأسيس القاعدة المادية للإنتاج السينمائي، وبدون القاعدة المادية تصبح السينما إنتاج أفلام يزداد عددها أو يقل سنويا، تتقدم تتأخر تتوقف حيث بدون القاعدة المادية للإنتاج لا يمكن القول بوجود صناعة سينما وطنية تشكل الهوية الثقافية لهذا البلد أو ذاك.
الفرق بين طلعت حرب باشا في مصر وطارق بن عمار في تونس أن الأول يملك مصرفا عملاقا وسيولة نقدية فائضة عن الحاجة تم إستثمارها لصالح السينما وأيضا لصالح السيولة المصرفية فيما الثاني طارق بن عمار لم يكن يملك تلك السيولة النقدية التي تتيح له حرية بناء القاعدة السينمائية للإنتاج السينمائي، فهو عمل بخطين متوازيين توفير السيولة النقدية وبناء القاعدة المادية للإنتاج السينمائي.
تحية من سينمائي عراقي إلى طارق حرب باشا .. بل طارق بن عمار بحد ذاته.