عندما تلج مرسم زهرة بوعلي، المطل على حديقة منزلها الساحرة، ويحتويك المكان بما يزخر به من جماليات وألوان، ومشغولات فنية تتنوع بين خزفية ونحت وحفر، وفن تشكيلي، تدرك كم أنت إزاء فنانة من الطراز النادر، فنانة مثقفة فنيا وقارئة مطلعة، ذات تجربة فنية وحياتية غنية، لديها شغف واضح بالتراث والأصالة والتاريخ والحضارات الشرقية، كما لديها حساسية فنية عالية.تمتلك من الطاقات والمهارات ما يجعلها تستنطق كل مايقع بين يديها من خامات.
فكل عمل أو لوحة من لوحاتها أو مشروع من مشاريعها الفنية، هو وليد حوارٍ متأنٍ عميق، وعلاقة وثيقة نشأت بينها وبين الفكرة و الخامة قبل أن تنكب على الإشتغال عليها، كل عمل هو نتاج علاقة غير إعتيادية، نتاج علاقة شغف، حب، إخلاص، تفانٍ، يجعل ما يخرج من بين أناملها من عمل تحفة ناطقة تكتنز بالكثير من المعاني، أشبه برواية، أو ملحمة شعرية مبهرة في أيقوناتها، تفاصيلها الحية والدقيقة، ولفرط الحرفية ودقة الاشتغال تخال أعمالها تحاورك، وتود لو تفضي لك بقصتها.
قبل أيام قليلة توجهنا لزيارة مرسم الفنانة في منزلها الواقع في حي الدانة في مدينة الظهران،كان الصباح يطل مبتهجا من النوافذ، استقبلتنا الفنانة بحفاوة ولطف أخاذ، كنتُ برفقة عدد من عضوات ملتقى ابن المقرب الأدبي، حملنا لها درع الملتقى وبعض إصداراته وباقة ورد، فيما حملت لنا هي وقدمت لنا بسخاء بعد الضيافة والهدايا التذكارية الجميلة، ينابيع فياضة من الإبداع الخالص مماكانت تحتاجه وتتوق له الأرواح وتتشهى الإنغماس فيه.
مرسم بوعلي الذي قامت بإنشائه بعد عودتها إلى أرض الوطن بعد سنوات من الإغتراب يبدو أشبه بأكاديمية فنية، دربت فيه العديد من الفتيات من جميع المراحل الدراسية، وكذلك جامعيات، إضافة إلى معلمات، وموجهات في التربية الفنية، وموهوبات أصبحن، فيما بعد فنانات تشكيليات، وقد خصصت له مناهج فنية لكل فئة عمرية، تتكون من سلسلة من الدورات، إضافة إلى إعطائها»دورات متخصصة، وورش عمل لفئات عمرية أخرى حسب المستوى والإحتياج. وقد خرج المرسم تشكيليات مثل تغريد البقشي ونوال العجمي.
وكان الهدف من تأسيسه رغبتها «في المساهمة، و لو في شكل فردي، في إيصال الفن التشكيلي إلى الأجيال الشابة، وكذلك رعاية المواهب الجيدة، ورفع مستوى التذوق الجمالي لديهم»، وقناعتها بأهمية»تنمية الإبداع في مراحل عمرية مبكرة، نتيجة وجود الكثير من المواهب الجميلة، وحاجتها الماسة إلى الرعاية، والتأسيس الصحيح، في ظل غياب شبه كامل للبنى التحتية للفن التشكيلي».
في طريقنا إلى المرسم مررنا بالورشة التي تقيم فيها الفنانة ورش لتعليم الصغار، فاستقبلتنا لوحة كبيرة تحتل مساحة من الحائط ذات ألوان طفولية مبهجة وحروف عربية متراقصة، أبقتها بوعلي كذكرى لعمل أول مجموعة أطفال تلقوا على يديها أبجديات التشكيل.
وعلى الرفوف الخشبية التي تطوق جدران الورشة اصطفت مجموعة من الأواني الفخارية المزخرفة والمنقوشة والملونة المشغولة بحرفية.
ومن هناك توجهنا لسلم خشبي صغير يفضي نزولا إلى المرسم، حيث تعلق الفنانة عددا من اللوحات، تمثل مراحل مختلفة من تجربتها الفنية المديدة التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي. توقفنا متأملين أكثر من لوحة من معرضها الشخصي الأول «حوار الذاكرة»، كما توقفنا أيضا أمام لوحة من معرضها «منمنمات»، وأخرى من معرضها الأخير»بين روحين».
بعدها حظينا بعرض «بوربوينت» لمقتطفات من مشاريع التشكيلية، وبدا من الواضح من خلال العرض الاهتمام الجلي للتشكيلية بقضايا الإنسان، التاريخ، الحضارة الشرقية، وكذلك بالكتب الفنية، والكتاب الفني هو عمل إبداعي يزاوج بين الفن والأدب، وقد قدمت بوعلي عرضا لافتا لعدد من مشاريع الكتب منها ما تم عرضه في المملكة وبعضها لم يعرض بعد، مثل كتاب «أحفورة مدينة»، الذي عرض في معرض»بين روحين»، وهو كتاب مطبوع في نسخته الأصلية، طباعة يدوية، في 25 نسخة متتالية ويحوي عشر محفورات من الزنك والنحاس واللينم مطبوعة طباعة يدوية على ورق فابريانم، وقد أهدته الفنانة إلى حبيبتها الأحساء، إذ تقول في ذيل صفحة الإهداء» الأحساء مدينة يستمر اكتشافي لها كل يوم، وتستمر في استنهاض أحاسيسي ورؤاي بلا نهاية»، ويحوي الكتاب خمسة نصوص قصيرة منها:
نهوض» مدينة تبدو كأنها تتلاشى، أهلها..كما العابرون، أرواحهم تسكن حيث الإغتراب»، ونص» لكنها، كلما التقيتها، تبوح لي بأسرار. تأخذني إلى ما وراء البوابات والطين والحجر»، و» أرواح حميمة تنهض من دهاليز أعماقها، تقبل حاملة أحفوراتها، وأيقوناتها. تضع الأحجار والطين والأبواب والنوافذ والروازن والرواشن بشكل مغاير»، ومن الكتب الفنية التي عرضت في لاثينيا وإيطاليا وألمانيا كتاب» لنمسك باللحظة»، وفيه تقول:»عندما تبتهج الروح يزهر الكون» والكتاب كما أطلعتنا بوعلي يدور حول علاقة الحب :»لأنك عندما ت صل للسعادة الحقيقية للروح فإنه يزهر الكون».
ويتبدى اهتمام التشكيلية بالتاريخ الإسلامي والشرقي في العديد من أعمالها بخاصة معرض»منمنمات»، حيث تتبدى قدرة اللون وتأثيراته، كما أن أعمالها تعلي من قيمة بعض الفنون الإنسانية مثل مجموعة»في بهو الموسيقى».
وكما تضمن العرض الكتب الفنية، تضمن كذلك عددا من اللوحات مثل:»زمن السقوط»، «مايكشفه القمر»، «عندما فتحت هذه النافذة»، «تماسك»، «رسائل مكنونة»، «غيالم»، ومجموعة جدارية» أللقاء»، لوحة» أحاسيس، إضافة إلى لوحة من مجموعة» أنا هنا»، و»عروس الساحل الآخر»، «العائلة»، «عند البوابة».
وقد تضمن العرض كذلك صورة لأحد مجسماتها والذي استخدمت فيه الفنانة خامات متعددة، وهو من الأعمال التي تفيض بالدلالات الرمزية، ويمثل جذع شجرة منتصب لأعلى بشكل مقلوب، غير أن جذوره المتشابكة في غير موقعها الطبيعي المعتاد، كما أن الجذع ليس على طبيعته وإنما تم تطعيمه بمزيد من الخشب، والطين، ومحاصرته بشبكة من الحديد كأنه وقع في أسر.