Saturday 15/02/2014 Issue 428 السبت 15 ,ربيع الثاني 1435 العدد

مفهوم: (ولتكن منكم أمّة)

حجّة في الولاية السياسية

(أ)

أصلٌ في وظيفة الحكومات –وفقاً للمفاهيم المعاصرة- يقوم على تنفيذ التشريع وتمكين القضاء، وحينما نقرأ في تاريخيّة الحكومات فإنّ السلطة الجامعة لا تساعد في إظهار وظائف الحكومة المحدّدة، بل يظهرها ذات صلاحيات أوسع ممّا هو حالها اليوم في الأنظمة الرئاسيّة أو البرلمانيّة وبعضاً من الأنظمة الشموليّة أيضاً؛ ولذلك فإنّ أبسط الحكومات تاريخيّاً كانت تجمع السلطات، فتعتمد في سنّ قوانينها وتشريعاتها على ميزان العرف/المعروف وتجريم ما يجرحه، وهذا العرف لا يحظى بالثبات والاطلاق، فإن كان معروفاً في مكانٍ ما فقد يكون مجهولا ومنكراً في مكان آخر، ومن الصعوبة حصوله على توافق تام، لكنّ معرفته لدى أكثرية الناس ومألوفيّته جعلته غالباً، وكلّ غالبٍ يتمتّع بقوّة، فصار عُرفاً قويّاً على الغلبة، وهو جذر التشريع/القانون، وأنكرت فعلاً آخر جارحاً له. كما أنّ هناك أفعال منكرة قد لا يحدث في ارتكابها ما يجرح العرف، بل محض مجهولة وغريبة، أو لا تألفها أكثريّة الناس فيكتسب النكران الغلبة فتصبح منكراً بقوّة؛ هكذا نجد ميزان: (الفعل العرف، والفعل الجارح له-النكران) يمثّل افتراضاً (جذر النواة التشريعيّة بالاستناد إلى غلبة الأكثريّة)، كأنّ العرفَ والمنكرَ آليةٌ اعتباطيّةٌ عموميّةٌ كانت تفرز وتحثّ (صاحب الأمر) أن يحتكم إليها، فإنْ تطابقت أوامره مع المفرزة العموميّة أمنَ الناس عيشهم وأرزاقهم بنسبٍ عالية، وذلك كنتيجة للتوافق بين رغبات الناس –الطرف الأقوى والباقي في العقد الاجتماعي- وبين السلطة الحاكمة.

(ب)

المقصد من هذا الاستهلال تمهيداً لمناقشة أسئلة في الوجود الماديّ للحكومة العربيّة-الإسلاميّة الأولى، التي كان النبي العربي عليه السلام يرأسها بوصفه الإنساني رئيساً لكيان سياسي وحّد فيه الجزيرة العربيّة، ومَن خلفه في رئاسة الحكومة لإدارة شؤون الدنيا والدين معاً؛ والغاية تفكيك الحجج التي يستند إليها دعاة الفتاوى وأطماعهم في منافسة الدولة تحت حجج دينية غير مثبتة، ممّا يرجع أصل الولاية إلى سلطة واحدة لا تنازعها سلطة أخرى: (ما اسم تلك الحكومة، أين إشارتها في المتن القرآني-الكتابي؟ ما مهمّاتها؟ من بيده سلطة التشريع بموجب المتن القرآني؟..).

ينفي بعض المفكرين المعاصرين وجود حكومة في صدر الإسلام، والحجّة عدم العثور على حكومة تطابق شكلها المعاصرة؛ والحقّ: أنّ اعتماد مطابقة الأشكال وتجاوز المضامين لا تفضي إلى نتائج يمكن الوثوق بها، لأنّ الحجّة ماثلة في المضمون في هكذا مقام؛ والقول بوجودها يستند إلى (نفي النفي) إذ يستحيل عقلاً أن تجد كياناً يضمّ جماعات ذات ارتباطات داخليّة وخارجيّة ولا تحسب له عقلاً يدبّر الأمور وينفّذها؛ وإذا وصلنا إلى القول: بشكل الحكومة البسيطة، فذلك ليس حصراً على حكومة الكيان العربي-الإسلامي الأوّل، بل أكثرية الكيانات السياسيّة، وحتّى القبليّة لا بدّ أنّها كانت تحتكم إلى شكل أوّلي بسيط (خميرة سلطويّة) جامعة لمضامين أوّلية لأعمال السلطات الثلاث: (التشريع، التنفيذ، القضاء)؛ وهو ما نجده في قراءة الوقائع الماديّة للتاريخ العربي الإسلامي، وتمثيلاً وتنفيذاً لآية 114/سورة آل عمران: (ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).

(ج)

يحيلنا فعل الأمر في مطلع الآية على دلالة: أنّ الرعيل الأوّل قد امتثل لهذا الأمر، فقام بتنفيذه لأداء المهمّات الثلاث المبيّنة في الآية، وهذا أصلٌ: أنّه فعل أمر قد وقع تنفيذه على بعض الموجّه لهم الخطاب وامتثال البقيّة لهم، (فمنكم للتبعيض وليست للبيان كما ذهب بعض المفسّرين، وذلك لاستحالة قيام كلّ الناس بهذه المهمّات: نظراً لاعتلال الكفاءات ومخزون المعرفة والخبرات، وثانياً لدلالة كلمة أمة نفسها، إذ يستحيل -لغة وواقعا- أنّ تكون دلالة (أمّة) على دلالة (عموم المؤمنين)، فكيف يقوم كلّ الناس بتنفيذ المهمّات الثلاث لكلّ الناس؟! كما أنّ أصول لفظة (أمّة) في اللغة تدل على: (الرأس، المقصد، المركز، الأعلى والمرجع)، وهي دلالات أحالتها الآية للموجّه لهم الخطاب-الأمر: لتكن منكم ( أمّة من الناس) على أن يكونوا رأساً ومرجعاً؛ ويتحتّم على هذه (المركزيّة الرئاسيّة) أن (تدعو، تأمر، تنهي) وفقاً لخير لا يتأثر بالظرفيّات، ويأمرون بعرفٍ متعارف عليه (تشريعات ذات غلبة عُرفية)، ويمتنعون عن أشياء (منكرة وغير مألوفة عند أكثرية الناس) تحت مراعاة زمانيّة ومكانيّة، والحجّة في ذلك اعتماد ميزان العرف والنكران، وهو الذي لا يكون ثابتاً كالوصايا العشر-الفرقان: (لا تقتل، لا تسرق، ..)، بل يكون متغيّراً متأثّراً بمعارف الناس واحتياجاتهم وتطوّرهم، ومن هنا يمنح المتن القرآني قوّة تشريعيّة لمألوف الناس وما يعرفونه وما ينكرونه، ويكون (لولي الأمر-الرأس-الأمّة) أن يشرعن ما يخرج عن هذا الميزان. وهذه الأمّة هي الحكومة العربيّة-الإسلاميّة الأولى، وهم المعنيّون في آية: (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم).

إذاً، كان اسم الحكومة الأولى (أمّة)، واسم من يمثّلها (أولي الأمر)، ولم يذكروا تحت مسمّى (أولى النهي)، لأنّ أعمال الحكومة الجامعة قائمة على الأمر بالمعروف بنسبٍ أعلى من النهي، ولأنّ السماح أصلٌ في التشريع والمنع استثناء محدود ومحدّد.

هكذا نتساءل اليوم، لمن يريد أن ينافس سلطة التشريع والتنفيذ، ويسقط هذه الآية على دلالات من خارجها، لا تتوافق مع المتن القرآني أو الوقائع الماديّة التاريخيّة: هل تحيلنا الآية إلى وجود (مركزية إضافيّة تنافس وتنازع المركزيّة-الأصل) غير (الأمّة) التي كان يرأسها النبي العربي عليه السلام وأصحابه المكلّفين بمهام: وظائف/مهام: (أ). دعوة للخير (ب) الأمر بالمعروف (ج) النهي عن المنكر؟ هذا هو جوهر المقال، فنحن لا ننكر ضرورة هذه المهام لأيّ حكومة في العالم، ولكنّ الحجّة: من قام بها تاريخيّاً، ومن يجب أن يقوم بها اليوم؟ هكذا تكون الأمّة في الآية الكريمة هي الحكومة، وتكون فتاوى رجالها (القوانين/التشريعات)، إنّما قد صدرت بوصفهم رجال دولة-أولي أمر، وليس بوصفهم رجالا متفقّهين بالدين وعلومه.

(د)

الدولة حامية الدنيا والدين والناس والمصالح، ولأنّ فهم الدين وتداول تفسيراته وتأويلاته لم يعد حكراً على طبقة معيّنة، فإنّ مخاطر إطلاق الفتاوى من عقالها يبرز في خطورة تشكيلها لفضاء منافس لفضاء الدولة وتشريعاتها؛ وهي مسألة إن لم تكن سابقاً ذائعة التأثير وتفضي إلى فضائين ومنازعة تشريعية وتنفيذية، على الرغم من ظهورها في محطات عديدة: (مسألة تعليم البنات، التلفزيون، وغيرها من محطّات التحديث والحداثة التي خاضتها الدولة)، لكنّها اليوم تطغى عبر قنوات التواصل الاجتماعي وإباحة التفرقة والقتال وعصمة الدم، فيما نسمعه من فتاوى غير مسؤولة وتأثيراتها السلبيّة، تشاع على أنها جزء من الدين أو حق لرجل الدين، وهي الحالة التي استدعت تدخّل الدولة إلى حسمها والتصدّي لها، من خلال الأنظمة الجديدة بشأن ردع عدم توريط الناس وإلحاق الأذى بهم وأبنائهم تحت التذرّع بالدين وتفسيراته، لأنّ الجهة الوحيدة المخوّلة بممارسة هذا الحق التشريعي هي الدولة وحدها، فالأصل عندنا أن الفتوى والتشريع هما لأهل الولاية السياسية وليس سواهم، ويكون على الطرف الآخر حقّ النقد والمراجعة وفق الوسائل التي تكفلها الدولة، وتحت موازين ما يعرفه الناس ويألفونه؛ فانظر إلى هؤلاء (دعاة التكفير والاقتتال والفتن والتقسيم) الذين يطمعون مشاركة الدولة في التشريع ويأخذون بعض الناس إلى الهلاك بحجّة تأويلات دينية تخصّهم وليس لها في المتن حجّة؛ فهل هم مهتدون إلى ميزان ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، أم إلى فوضى الأهواء والمصالح الشخصية!

ياسر حجازي - جدة